مداخلة حول مشروع موازنة 2001

 

السيد الرئيس.. السيدات والسادة الأعضاء

يعبر بيان الحكومة المالي لمشروع موازنة 2001، عن السياسة التي تعتمدها في إدارة اقتصاد الدولة، ولذلك فإن مداخلتي ستتركز على الملامح العامة لتلك السياسة، وسأترك الجزئيات لمناقشتها عند دراسة مشروع الموازنة بناء على تقرير لجنة الموازنة في المجلس.

لقد كان بيان الحكومة متفائلاً ككل البيانات السابقة، وبما أن الحكومة جديدة، فإننا نأخذ تفاؤلها على محمل الجد، ونبحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك فلا نجدها إلا بنقطتين، الأولى تقديم الموازنة ضمن المدة الدستورية، والثانية في البحبوحة التي نتجت عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط العالمية وما تكدس من فوائض الميزانيات السابقة، ولابد أن نلفت النظر هنا إلى أن استخدام (55) مليار ل.س من فائض الموازنات السابقة سوف لن يكون متاحاً في السنين القادمة، كما أن أسعار النفط المرتفعة لا يمكن الركون إليها كدخل ثابت في الموازنة، وأن تضخيم الموازنة بهذين العاملين يجب أن يرافقه خطة عمل واضحة لتوظيف تلك العائدات الإضافية الغير ثابتة في رفع كفاءة اقتصادنا، ليكون قادراً على خلق بدائل تزيد من واردات الخزينة المحلية عن طريق التنمية الشاملة والمستدامة، أما من حيث مضمون البيان المالي ككل، فلا أرى أنه يتضمن برنامج إصلاح اقتصادي واضح المعالم كما كنا ننتظر.

ورد في الصفحة الأولى من بيان الحكومة المالي ما يلي: لقد أصبحنا نقف أمام فجواتٍ نتجت عن الخلل بين الموارد والنفقات، وبين الاستيراد والتصدير، وبين الإنتاج والتصريف، وبين الأجور والأسعار، وأننا بحاجة إلى إعادة تأهيل القطاع الصناعي العام منه والخاص، لما يتهدده من أخطار متزايدة.

وبعد هذا الاعتراف الواضح بحاجتنا الماسة إلى الإصلاح الاقتصادي والمالي، نفاجئ في الصفحة عشرين من البيان، بالافتخار بالإنجازات التي تحققت في العقود الماضية، مؤكداً أنه لا خوف على اقتصادنا، فهو قوي ومتين.

إن هذا التناقض يعبر بشكل دقيق عن السياسات الاقتصادية والمالية للحكومة الحالية، حيث تعترف بخلل في بنية اقتصادنا، وتصفه في نفس البيان بالقوة والمتانة، وإن هذا التناقض يظهر بشكل واضح فيما اتخذته الحكومة من قرارات، فعندما أعادت النظر بقانون العقوبات الاقتصادية الصادر عام 1964، لم تعالج الأمور الجوهرية في هذا القانون، بل عادت فثبتته من جديد، بعد تعديل بعض الأرقام تماشياً مع نسب التضخم، على الرغم من أن هذا القانون يشكل أحد العقبات الرئيسية في جلب الاستثمار. وعندما عدلت قانون الاستثمار، لم تأخذ بعين الاعتبار أننا نفتقد أصلاً إلى مناخ للاستثمار. وهي مهتمة بإقامة سوق للأوراق المالية، على الرغم من عدم توفر الأرضية القانونية لإقامة الشركات المساهمة التي توجد تلك السوق لتداول أسهمها، وقبل أن تعدل قانون التجارة وقانون التحصيل الضريبي. وصدر قانون السماح باستيراد السيارات مشوشاً، وعلى الرغم من إعادة صياغته، فما زال غير قابل للتنفيذ. وعلى الرغم من طرحها لشعار تشجيع الصادرات، فإنها لم تتخذ أي إجراء يساعد على ذلك. وباسم حماية الصناعة الوطنية وتوفير فرص العمل، اتخذت قراراً بعرقلة حصول آلاف المنشآت الحرفية والصناعية لمادتها الأولية من الخيوط، مما يؤدي إلى تسريح عشرات آلاف العمال، وخسارتنا لجزء هام من صادراتنا. وجاء علاجها لمعضلة الرواتب مخيباً للآمال، دون أن يساهم في إزالة التشوهات المتعددة في جوهرها

إنه من الطبيعي أن لا نفاجئ بهذا التناقض، طالما أن الطاقم الذي يدير الاقتصاد في الحكومة الجديدة، غير متجانس، وأن وزيري الاقتصاد والمالية في الحكومة الحالية، كانا على مدى سنين طويلة يحتلان نفس المناصب في الحكومة السابقة، أي أنهما يتحملان الجزء الأكبر من المسؤولية عن النتائج السيئة التي أضرت باقتصادنا وأضعفته، ولا يمكن أن نتوقع أن يقبلا الإدانة، وهما ما زالا في نفس المراكز، كما أنه من غير المنطقي أن نتوقع حدوث انقلاب في طريقة تفكيرهما وتغيير جذري في قناعاتهما.

وفي ظل هذه المعطيات لا أتوقع أن تكون الحكومة قادرة على اتخاذ أية خطوة جوهرية على طريق الإصلاح الاقتصادي، لأن ذلك يحتاج إلى برنامج متكامل واضح المعالم، يبنى على قاعدة متينة أساسها توفر الشروط الضرورية التالية:

1-الشفافية الكاملة في عمل السلطة التنفيذية، وإيجاد الآلية القادرة على مراقبتها ومحاسبتها وتصحيح مساراتها.

2-استقلالية السلطة القضائية، وتطهيرها من الفساد، ورفدها بقضاة يتمتعون بالخبرة والنزاهة، مما يوفر لكل المواطنين والمؤسسات الاقتصادية الاطمئنان على حقوقهم والحماية من المتعدين عليها.

3-كسر الاحتكار الاقتصادي، وتقييد حرية الحكومة في توزيع المغانم وتفصيل القرارات على قياس فئة من المقربين المحظوظين، وإحلال مبدأ تكافؤ الفرص والمنافسة النزيهة والعادلة.

4-تبسيط الإجراءات، وكبح جماح البيروقراطية لقطع الطريق على المبتزين، والتخلص من الهدر للوقت والمال.

5-القضاء على الفساد بكل أشكاله، بعد أن أصبح معظم السوريين إما راشين أو مرتشين.

6-إعادة صياغة قانون التجارة، والقوانين الضريبية، والكثير من القوانين الأخرى، بما يسمح للمؤسسات الاقتصادية بالانتقال من العمل السري والمكتوم وارتكاب المخالفات الجماعية للقوانين، إلى العمل المعلن تحت مظلة القانون الذي يطَبق على الجميع دون استثناء بما يحقق العدالة ويُحرّض على الإنتاج والإبداع.

7-توفير الشروط اللازمة، لمساعدة مؤسساتنا الإنتاجية على المنافسة، في القطاعين العام والخاص، عن طريق توفير الكوادر المؤهلة والمناطق الصناعية المجهزة، وتوفير المواد الأولية بالأسعار العالمية، وتخليص تلك المؤسسات من كل التكاليف الطفيلية والغير ضرورية.   

إن توفر هذه الشروط مجتمعة هو وحده الكفيل بخلق المناخ الاستثماري، القادر على جذب الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية لتوفير ما نحتاجه من فرص العمل، وإنه من العبث ومضيعة الوقت، أن نظن أن تحقيق ذلك ممكن بمعزل عن الإصلاح السياسي، حيث أن كسر الاحتكار السياسي هو شرط لازم لتطبيق مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وأن يكون القانون فوق الجميع، وإيجاد الآليات الضرورية للمراقبة والمحاسبة، لأنه من البديهي أن أي احتكار لابد أن يولد العقم ويوقف التطور والنمو، كما أنه لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، حيث أن الاحتكار السياسي يُنتج بالضرورة الاحتكارات الأخرى الاقتصادية والثقافية والإعلامية، مما يؤدي في النهاية، إلى عدم قدرة المجتمع ككل على تجديد نفسه بما يتوافق مع المعطيات المتجددة التي تفرضها المتغيرات الداخلية والخارجية.

إن النمو الطبيعي لأي مجتمع، لابد له من توفر التوازن الذي يضمن عدم طغيان مصالح أي فئة على حساب الفئات الأخرى، ولقد أثبتت تجارب كل الدول، على أن تحقيق ذلك التوازن مشروط بوجود مؤسسات المجتمع المدني، المستقلة عن مؤسسات الدولة والتي تكمل دور تلك المؤسسات وتحرضها على تحسين أداءها، وتستطيع من خلال الأنظمة والقوانين والحوار السلمي، أن تدافع عن حقوق المنتسبين إليها.

إن كل الدول التي عانت من خلل في بنية اقتصادها، ولم تتمكن من اكتشاف ذلك الخلل إلا بعد أن تراكمت الأخطاء لسنوات طويلة، كان يمكنها أن تتفادى تلك النتائج، لو أنها امتلكت الآلية القادرة على اكتشاف أخطاءها بشكل مبكر من خلال آليات ونشاطات مؤسسات المجتمع المدني المستقلة. وعلى سبيل المثال، ما كان للرواتب والأجور أن تتدهور بوجود نقابات حره تدافع عن أصحاب تلك الرواتب، ولما استفحل في قطاعنا العام كل ما يعانيه من أمراض مستعصية.

إن الشفافية أيها السادة، لابد أن تبدأ من تفعيل مجلسنا هذا، ليأخذ دوره الكامل في محاسبة ومراقبة السلطة التنفيذية، فلا تُحجب عنه أية معلومات ولا تُوصد في وجه أعضاءه أية أبواب، كما أنه لابد من فتح كل القنوات التي تساعده على التواصل مع كافة المواطنين، وبث جلساته كاملة وعلى الهواء في التلفزيون السوري، وتمكين أعضاءه من حرية النشر في الصحف الرسمية دون أن تمر على مقص الرقيب، وحمايتهم من أي معاملة كيدية تمارسها جهات حكومية أو أي سلطات أخرى ضدهم بسبب ما يطرحونه من أفكار، انسجاماً مع ما ورد في نص الدستور.      

 والسلام عليكم ورحمة الله.             

دمشق في 7/ 11/ 2000

رياض سيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *