في ما خصّ مبادرة رياض سيف
تارخ النشر: الأربعاء 22 ذو الحجة 1433 هـ – 07 نوفمبر 2012 KSA 03:04 – GMT 00:04
سبق للصناعي رياض سيف أن اقترح مبادرة مشابهة لمبادرته الراهنة قبل أكثر من سنة من الآن، على نطاق ائتلاف إعلان دمشق. كان ذلك في الأشهر الأولى للثورة السورية، بعدما شارك بضع مرات شخصياً في التظاهرات السلمية في مسقط رأسه حي الميدان الدمشقي، ونال قسطه من اعتداء الشبيحة عليه بالضرب في آخر مشاركة. اقترح النائب السابق حينذاك إنشاء إطار جديد ينطق باسم إعلان دمشق الذي كان من مؤسسيه، بعدما رأى من شلل أمانته العامة وعجزها في الاستجابة لثورة الشعب السلمية بعد أشهر على انطلاقها.
هكذا هو رياض سيف: مبادر حين تكون الساحة مقفرة والفاعلون عاجزين، متفائل يبث التفاؤل في من حوله حين يسود التشاؤم. كان نائباً في مجلس الشعب حين بدأ الكلام ضد النظام تحت قبته، وأدخل يده في عش الدبابير بهجومه على عقود تأسيس شركتي تخديم الهاتف الخليوي اللتين شكلتا الواجهة «الليبرالية» للطغمة العائلية الفاسدة في طور التوريث. كان مبادراً في مساهمته بقسطه في إطلاق ربيع دمشق، وأسس أحد المنتديات في بيته في ضاحية صحنايا الملاصقة للعاصمة، واعتقل بعد أول انعقاد له (أيلول/سبتمبر 2001) لينال حكماً بلغ خمس سنوات سجناً.
كان من المساهمين في إطلاق إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي في خريف 2005، وكرَّسَ وقته وجهده لإنقاذ أعرض ائتلاف للمعارضة السورية في تاريخها من خلال العمل على عقد «المجلس الوطني لإعلان دمشق» في بيته الجديد في ضاحية قدسيا (كانون الأول/ديسمبر 2007) ليعتقل بعد ذلك بشهرين بين من اعتقلوا في قيادة «الإعلان» المنتخبة. حكم عليه بسنتين ونصف سجناً كسائر قادة الإعلان، ثم خرج وأعلن استقالته من الأمانة العامة تحت ضغط الوضع السياسي القاتم الذي وجد فيه البلاد حينذاك، وشلل فاعلية الائتلاف الذي كان علق عليه كل آماله.
لكن الصناعي العصامي الذي خبر الحياة بكل تقلباتها، سيستعيد حيويته السياسية على رغم السرطان الذي تمكن منه، حين رأى التظاهرات الشعبية الكبيرة تهز أركان أعرق دكتاتورية فاسدة في المنطقة العربية، في حي الميدان بالذات حيث عاش طفولته وصباه. منعته السلطات من الخروج للمعالجة، فوجد متأخراً طريقه للتسلل إلى إسطنبول عاصمة المعارضة السورية في زمن الثورة. بعيداً عن محرقة الإعلام، تعرف سيف إلى نقاط ضعف المجلس الوطني السوري الذي كان عضواً مؤسساً فيه، وشخَّص أمراضه من غير أن يقع ضحية إغراء الهجوم عليه كما فعل كثيرون غيره من الباحثين عن الأضواء والمناصب. منذ مؤتمر القاهرة وهو يعمل بهدوء لانتشال واجهة الثورة السورية من مأزقها، ولم يعلن عن مبادرته الجديدة إلا قبل أيام معدودة على اجتماع الدوحة، المخصص لتفعيلها.
تشكل الحكومة الثورية الموقتة نواة مشروع رياض سيف، وهذه نقلة من سلطة تشريعية إذا جاز التعبير، كانها المجلس الوطني السوري، إلى سلطة تنفيذية تعمل كرجل واحد بعيداً عن هواجس التمثيل والتوافق السياسي التي شلت عمل المجلس وكادت تقضي عليه.
بمعنى من المعاني يحاول سيف معالجة المشكلة ذاتها للمرة الثانية. فبعد وقت قصير من تشكيل قيادة توافقية لائتلاف إعلان دمشق، تبين أنها تتألف من تيارين لا يمكن التوفيق بينهما (أحدهما ليبرالي والثاني اشتراكي ممانع) الأمر الذي شل عمل الائتلاف تماماً وحوَّلَهُ إلى مجرد اسم بلا مضمون وبلا عمل. فعمل سيف على الإعداد لعقد مجلس وطني هو بمثابة مؤتمر للائتلاف المعارض ينتخب قيادته انتخاباً. وإذ جاءت نتائج الانتخابات لصالح التيار الليبرالي، انشق عنه التيار الممانع الذي سيشكل بعد فترة من بداية الثورة الشعبية ائتلافاً جديداً باسم «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي» برئاسة حسن عبد العظيم في الداخل وهيثم العودات (مناع) في الخارج.
مشكلة اليوم ليست بين تيار ليبرالي وآخر يساري ممانع، بل هي مرض متعدد الأبعاد يشل فاعلية الإطار الأهم للمعارضة السورية في زمن الثورة، لعل أهمها أنه بدلاً من قيادة ثورة الشعب نحو أهدافها المعلنة، كان مجرد صدى لمطالبها وشعاراتها إضافة إلى انقطاعها الواقعي عن وقائعها وجسمها الثوري. فلا انبثق المجلس من قلب الحراك الثوري ليحق له الادعاء بتمثيلها عضوياً، ولا انفصل عنها بالمسافة المطلوبة لقيادتها ومساعدتها. وإذ أعلن رفضه لأي تدخل عسكري خارجي للإطاحة بنظام الأسد، لم يبذل الجهد الكافي للاستقلال عن القوى الإقليمية والدولية المتنوعة التي تنطحت لدعم الثورة. وفشل في تأمين مصادر دعم للثورة، ليهدر القليل الذي توفر منها في الحسابات الحزبية الضيقة للقوى المشكلة له.
وإذا كان الإخفاق الديبلوماسي للمجلس في تأمين حماية أممية للثوار يعود إلى أسباب لا يد له فيها، فهو المسؤول عن عجزه عن تأطير القوى المعارضة الواقفة خارج مظلته. أخيراً وليس آخراً، المجلس الذي وضع معظم رهاناته على تركيا أردوغان، سيكتشف أن هذا الأخير مرتهن للموقف الأميركي أكثر مما كان متوقعاً، ومكبل اليدين داخلياً في مواجهة مشكلات من صنعه.
أثارت مبادرة سيف حتى قبل إعلانها الكثير من اللغط والهجوم والتشويش. وكما اتهم سابقاً من قبل التيار الممانع في إعلان دمشق بأنه قبل دعوة السفارة الأميركية للمشاركة في احتفالها بالعيد الوطني الأميركي، يتهمه اليوم قادة المجلس الوطني بالتنسيق مع السفير الأميركي روبرت فورد في مبادرته الجديدة. الواقع أن التصريحات المتعجرفة لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قدمت مادة ملائمة لأولئك الذين لا يتقبلون الاعتراف بالفشل والتنحي ويقدمون مصالحهم الضيقة على مصالح الثورة ومصير الوطن.
هذا الوطن الذي يدمر اليوم أمام أعين العالم بحاجة لإنقاذ. هذا ما لا يجادل فيه أحد. الخلاف هو حول سبل الإنقاذ وأثمانه. أصبح ظهور شخصيات المعارضة الموجودة خارج البلاد على وسائل الإعلام، وحديثهم عن الثورة التي ستستمر حتى تحقيق أهدافها بفضل تضحيات الشعب وتراكم أعداد الشهداء والنازحين واللاجئين والمعتقلين والمفقودين، يثير الاستهجان الشديد، ولن تخفف منه أفواج السياحة الثورية من تركيا إلى المناطق المحررة بفضل بطولات الجيش الحر.
يبدي معارضو مبادرة سيف روحاً تطهرية صاخبة ترفض الوصاية الأميركية على المعارضة من جهة، والتفاوض مع النظام من جهة ثانية. بصرف النظر عن مدى صحة هذا الموقف المنطوي على تشكيك في النوايا، لا بد من القول إنه يخفي الوجع الحقيقي للمنتقدين وهو شعورهم بأن قطار التغيير قد فاتهم، وآن أوان تنحيهم عن المشهد.
السياسة، قبل ذلك وبعده، خط متعرج مملوء بالمستنقعات القذرة.
منقول عن “الحياة” اللندنية