تجربتي في مجلس الشعب: أوهام الديموقراطية في ظل الاستبداد (2)

على هامش الانتخابات التي تجري راهناً، وجدت انه من الضروري والمفيد عرض تجربتي الخاصة في مجلس الشعب وما عانيته وكابدته في سياق دفاعي عن حقوق الناس وعن وطن متطور ومزدهر وخالٍ من القهر والفساد، عسى أن تشكل معيناً لكل الراغبين في التصدي للهموم العامة وتكشف واقع هذه المؤسسة وشكلية دورها.

بيان حكومة مصطفى ميرو

في مداخلتي حول بيان الحكومة الجديدة، طرحت بشكل موارب ضرورات القيام بإصلاح سياسي، وأشرت الى: «أن الحكومات السورية هي من أسعد الحكومات في العالم حيث لا أحزاب معارضة تؤرقها، ولا إضرابات عمالية تحرجها، ولا سلطة قضائية تحاسبها، ولا سلطة تشريعية تراقبها، ولا سلطة إعلامية تفضح أخطاءها. وإن هذا المناخ الذي يتوفر للحكومة لا بد من أن يسبب الاسترخاء والكسل واللامبالاة. كما يشكل بالضرورة أرضاً خصبة لنمو الفساد…. وإنني أطالب بإعادة الأمور إلى نصابها من خلال فصل السلطات لنعيد للسلطة التشريعية دورها الفاعل وللسلطة القضائية استقلاليتها وللإعلام حياديته». وكانت هذه آخر مداخلة لي في عهد الرئيس حافظ الأسد.

المخاض

قبل فترة وجيزة من وفاة الرئيس حاقظ الأسد، دُعيت إلى لقاء في بيت المخرج نبيل المالح مع مجموعة من المثقفين، ودار الحديث حول أفضل صيغة للمساهمة في عملية إصلاح سياسي كان الجميع مقتنعا بأنها باتت ضرورة ملحة للتغلب على ما يعانيه المجتمع السوري من أزمات نتيجة غياب السياسة عن الشارع السوري. وفي بداية حزيران انتقلت الاجتماعات إلى مكتبي المخصص لشؤون مجلس الشعب. وكانت تعقد بشكل دوري كل يوم أحد. أفضت هذه الاجتماعات إلى الاتفاق على أن يكون مدخل الإصلاح السياسي عن طريق تعزيز ثقافة المجتمع المدني، والبدء بتأسيس منظمة يطلق عليها اسم «جمعية أصدقاء المجتمع المدني»، حيث جاء في بيان التأسيس: «إن المجتمع المدني كما نراه هو مجموع التنظيمات المجتمعية غير الحكومية من جمعيات ونقابات وهيئات ومنظمات وأحزاب ووسائل إعلام حرة ومتعددة ونواد ومؤسسات جوهره الخيار الديموقراطي، ولا يمكن للديموقراطية أن تتجسد إلا عبر نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته، وخلق حالة حوار نقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن. كما أن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني يعتبر السبيل الوحيد لبنــــاء دولة للجميع وتحقيق حراك اجتماعي فاعل وصولا إلى الدعوة إلى تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني في سوريا علّنا نقدم جهداً يسهم في بناء مجتمع ديموقراطي متطور».

كانت الاجتماعات علنية ومفتوحة ما يجعلها مكشوفة للأجهزة الأمنية. وفي اجتماع الأحد ما قبل الأخير تم الاتفاق على تقديم طلب تسجيل الجمعية بعد إنجاز الصياغة النهائية لبيان التأسيس في الأسبوع التالي. وقبل موعد الاجتماع بأربعة أيام تلقيت دعوة للقاء نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام في منزله. دام اللقاء أكثر من ثلاث ساعات. وعلى الرغم من ان لقاءاتي السابقة بالسيد خدام كانت قليلة، وتتم بشكل رسمي في مكتبه لمعالجة قضايا عامة، إلا أن هذا اللقاء كان مختلفاً جداً، وفاجأني بابداء إعجابه الشديد بي وبالنجاحات التي حققتها في عملي، وخاصة من النواحي الإنسانية والأخلاقية. ثم أبلغني عن لقاء كان له مع رئيس الجمهورية في صباح ذلك اليوم، دار فيه الحديث عما لقيته من معاملة كيدية ظالمة من قبل محمود الزعبي وحكومته، وأنه، أي خدام، قال: «لو أن الرئيس حافظ الأسد علم بذلك في حياته لقطع أيديهم على ما فعلوا». ثم نقل لي رغبة رئيس الجمهورية بأن استعيد أمجادي الصناعية وأعود أكثر من عشرة أضعاف مما كنت عليه. كما أبلغني طلب رئيس الجمهورية كتابة تقرير مفصل يبين حجم الخسائر التي تكبدتها نتيجة تلك المعاملة الكيدية، وتسليمه للرئيس عن طريق السيد خدام.

تمت الموافقة على الصياغة النهائية لبيان الجمعية، في الاجتماع الأخير مع زملائي وتم تكليفي بإعلام كل من نائب رئيس الجمهورية واللواء بهجت سليمان، وطلب المساعدة منهما للحصول على ترخيص الجمعية. وعلى هذا التقيت في صباح اليوم التالي اللواء بهجت سليمان في مكتبه بحضور الدكتور الياس نجمة سفيرنا في فرنسا وزميلي السابق في مجلس الشعب. وفي حوار دام أكثر من ساعتين علمت فيه أن اللواء بهجت كان على علم كامل بكل ما كان يدور في اجتماعاتنا وأنه كان يتوقع زيارتي. وتركز حديثه وحديث الدكتور نجمة على محاولة إقناعي بأن غالبية ما يسمى منظمات المجتمع المدني ما هي إلا وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية وأندية الروتاري، التي يتحكم بها اليهود بقصد السيطرة على العالم. وأعلن رفضه القاطع لقيام مثل هذه الجمعية. وفي مساء ذلك اليوم التقيت السيد عبد الحليم خدام في منزله، وكان يتوقع أن أقدم له التقرير بالخسائر الذي طلبه رئيس الجمهورية. وتفاجأ عندما قدمت له طلب تسجيل الجمعية، فامتقع لونه وقال: «هذه ليست جمعية، هذا بلاغ رقم واحد لانقلاب تخططون له تحت يافطة المجتمع المدني وهو أمر لا يمكن أن يتم». وتابع قائلاً: «لماذا لا تدخلون من الباب وتنتظرون بعض الوقت ريثما يصدر قانون جديد للأحزاب، فتؤسسوا حزباً سياسياً يمكنه دخول الجبهة أو ممارسة نشاطه كمعارضة بشكل نظامي». على هذا انتهى اجتماعي بالسيد خدام ولقاءاتي به. وعند خروجي قلت له: إنني سأوافيك خلال أسبوع بالتقرير الذي طلبه رئيس الجمهورية، فقال بفتور إنه يفضل أن أقدمه إلى مدير مكتب رئيس الجمهورية، وهو ما حصل بعد اسبوع فسلمت تقريراً من 16 صفحة، يحوي كل الوثائق الضرورية وحجم الأضرار التي تكبدتها، والتي وصلت إلى 350 مليون ل.س. ولم أتلق حتى اليوم أي جواب أو رد.

منتدى الحوار الوطني

في اجتماع الأحد أطلعت زملائي على نتيجة مقابلاتي. وبعد حوار مستفيض، رأى البعض ضرورة أن تتابع الجمعية نشاطاتها من دون ترخيص، بينما ارتأيت مع عدد من الزملاء، أمام شعوري بانسداد الأفق لدور لي مؤثر في مجلس الشعب، افتتاح منتدى للحوار الوطني في منزلي، تقام فيه جلسات حوار أسبوعية تبدأ بطرح موضوعات خاصة بثقافة المجتمع المدني، مستفيدين من تمتعي بالحصانة البرلمانية التي يمكن أن تساعد في إنجاح المشروع وتخطي الممانعة الأمنية.

وعلى الفور، أعلنت عن تأسيس «منتدى الحوار الوطني». الذي افتتح نشاطه في 13 أيلول 2000 بمحاضرةٍ عن المجتمع المدني لشيخ المثقفين السوريين أنطون مقدسي. حظي افتتاح المنتدى والمحاضرة الأولى باهتمام سياسي واجتماعي وإعلامي كبير لعدة اعتبارات منها: استباق السلطات السورية افتتاح المنتدى بإرسال رسائل «تحذيرية» عبر صحيفة لبنانية، اتهمت «دعاة المجتمع المدني في سوريا باقتباس تجربة أوروبا الشرقية في الإطاحة بأنظمتها الحاكمة». وتساءل «مصدر وثيق الصلة بالنظام» على حد وصف الصحيفة عن «الهدف الحقيقي الكامن وراء نيّة تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني»، إذ يسعى أصحابها على حد قوله إلى «إقامة منتديات ثقافية وسياسية غير معلنة، ومن المرجح أن تكون أندية الروتاري الماسونية بينها». وبنفس الوقت كان أنطون مقدسي نفسه قد وجّه رسالة إلى الرئيس بشار الأسد عبر صحيفة «الحياة» بتاريخ 14 آب ,2000 تُعتبر الأولى لجهة مخاطبة رئيس الجمهورية عبر وسائل الإعلام، قال فيها بكل عفويةٍ وصراحةٍ وجرأة «الوضع العام، باختصار يا سيدي: انهيار عام، سياسي واقتصادي وأيضاً ثقافي وإنساني».

كان المشهد أشبه ببرلمان حقيقي أو بتجمعٍ لمختلف الآراء والأفكار والمواقف لم تعرفه سوريا منذ عقودٍ، واقترنت الدعوة لافتتاح «منتدى الحوار الوطني» بمقولة الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم: «لا يُبنى المجتمع ولا يتطور ولا يزدهر بالاعتماد على شريحة أو جهة أو مجموعة، بل يعتمد على تكامل عمل الكل في المجتمع الواحد». وتحت هذه العبارة كانت الدعوة صريحةً للجميع كي يُسهم في «الحوار السلمي والعلني والصريح» الذي يسعى إلى «الاقتراب ما أمكن من الحقيقة، التي ستنير لنا الطريق في مسيرتنا لبناء وطن القوة والمنعة والرفاه». واستمرت جلسات المنتدى على مدى أربعة أسابيع تحدث جميع المحاضرين فيها ضمن محور «إحياء المجتمع المدني» الأمر الذي خلق جدلاً في الأوساط السياسية والثقافية السورية. وفي هذا المحور، الذي استمر لأربع جلسات، حاضر كل من الدكتور أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، والأستاذ الكاتب والباحث جمال باروت، والدكتور محمد سعيد الحلبي.

استمر «منتدى الحوار الوطني» في نشاطه وفاعليته وطرح محوراً آخر بعنوان (كيف نبني اقتصاداً وطنياً؟)، شارك فيه كل من نبيل مرزوق وعارف دليلة ورياض الأبرش ورياض سيف. وقد عكس تعدد وتنوع الهويات الفكرية للمحاضرين طبيعة المنتدى الوطنية الواسعة والمفتوحة على كافة المشاركات. ولعل احد الانجازات الهامة التي حققها المنتدى هو إتاحة الفرصة للأحزاب الكردية بتقديم قضيتهم كقضية وطنية تهم جميع الأطياف السياسية في سوريا وخاصة الملح منها والمتعلقة بتجريد قسم منهم من الجنسية وإقامة الحزام العربي. كما لوحظ حضور مكثف لشريحة الشباب وقد شجّعت ظلال المنتدى والآثار الإيجابية التي تركها كتجربة وليدة الآخرين على اقتباسها واستنساخها، فبدأت المنتديات تتكاثر كالعشب في الربيع، وكان أبرز هذه المنتديات، المنتدى الثقافي لحقوق الإنسان في صحنايا في منزل المحامي خليل معتوق، ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديموقراطي في منزل المرحوم جمال الأتاسي. وانتشرت المنتديات أيضاً في المحافظات السورية الأخرى بدءاً من حلب وحمص واللاذقية وطرطوس وانتهاءً بالقامشلي والحسكة ودير الزور.

ربيع دمشق

لقد أصبح المنتدى كما وصفته مجلة (النيوزويك) الأميركية «بداية حركة التغيير القادمة في سوريا حتما». ومع صدور بيان الألف في بداية عام ,2001 الذي أعاد التأكيد على المطالب السياسية المعروفة كرفع حالة الطوارئ والأحكام العرفية وإطلاق سراح السجناء السياسيين وفسح المجال لحرية الرأي والتعبير وغيرها، أصبحت عجلة التغيير في سوريا أشبه بكرة الثلج ما شجعني على التفكير بتحويل منتدى الحوار الوطني الى «صيغة» مؤسساتية، وقد تجلى ذلك في تأسيس لجنةٍ تدير شؤون المنتدى، أُطلِقَ عليها «لجنة منتدى الحوار الوطني» تألفت من 14 عضواً من مختلف التكوينات والمشارب.

سعت «لجنة منتدى الحوار الوطني» إلى فتح محورٍ جديد يتناول قضايا سياسية محددة، فطرحت «محور الحقوق» الذي افتتح بمحاضرة للدكتور شبلي الشامي، وكانت بعنوان (حق القول). وقد حظيت باهتمام إعلامي متميز، من قبل وكالات الأنباء العالمية، والفضائيات العربية والأجنبية التي قامت بتغطية مباشرة لها أو من قبل الصحف العربية والأجنبية، ما شكل دعماً للمنتدى، عزز حضوره داخلياً وعربياً وعالمياً، ليغدو أشبه ببوابة لمخاطبة الرأي العام المحلي والعربي.

تلت محاضرة الشامي محاضرة أخرى أكثر تخصصاً بالشأن السوري، وقد تركّزت حول «الإصلاح السياسي: معناه وحدوده» لأستاذ الفلسفة في جامعة دمشق الدكتور يوسف سلامة، ما جعل النقاش في المنتدى يتركز بشكلٍ عملي على تقديم أفكار وحلول نظرية وعملية للإصلاح السياسي والاقتصادي، جاعلاً موضوع الإصلاح في سوريا قضية ساخنة.

وقد أعطى الإعلان عن تأسيس «التجمع من أجل الديموقراطية والوحدة» كحزب سياسي جديد، والإعلان الآخر عن تأسيس الحزب الوطني الديموقراطي، إشارات خاطئة، وبدا للعيان كأن القيادة السياسية قررت توسيع هامش الحراك السياسي والحزبي، ما شجعني على طرح ورقة مبادئ أولية لتأسيس حزبٍ سياسي جديدٍ. وفي جلسة منتدى الحوار الوطني بتاريخ 31 كانون الثاني، عرضت الورقة تحت اسم «حركة السلم الاجتماعي مبادئ: أولية للحوار» واستمرت النقاشات الحادة حولها على مدى يومين.

ترافق ذلك مع بدء حضور «الرفاق البعثيين» لجلسات المنتديات وبتكليفٍ رسميٍ، «لتفنيد ما يُطرح وإظهار ثغرات الحوار وخلفياته»، على حد تعبير عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية. وقد خلق حضورهم لجلسات «منتدى الحوار الوطني» ومشاركتهم في النقاش صدىً طيباً في البداية، ولقي ترحيباً من جميع الحضور، على أساس أنه يخلق حواراً ولو بشكلٍ غير مباشر بين المجتمع والسلطة. بيد أن هذه المناقشات، ومع مرور الوقت، كانت تخرج عن مسارها الطبيعي والهادئ وغالباً بشكل مفتعل، لتصبح هجوماً على آراء المحاورين وتجريحاً شخصياً لهم، ثم تمادت لتصبح تشكيكاً في وطنية وغايات «أصحاب المنتديات» كما صار يُطلق عليهم. وهذا ما عجَّل بالبدء في كبح نشاط المنتديات وكبتها، إذ وجدت السلطات السورية في انتشارها بداية لمقاومة سلمية وشعبية واسعة.

كانت المحاضرة الأخيرة في منتدى الحوار الوطني بعنوان «المأزق السياسي وإشكالية التغيير الديموقراطي في سوريا» للدكتور رضوان زيادة، أول محاضرة تطرح سيناريوهات التحول الديموقراطي المستقبلية في سوريا. وزاد حضور البعثيين من فرع جامعة دمشق النقاش توتراً وسخونة، وأضاف جرعة من التوتر حضور أحد الصحافيين الأميركيين الذي طلب الكلام ليثني على هذه التجربة السورية، وليقول: إن هذه التجربة لا مثيل لها في الولايات المتحدة. لكن ـ بعنفٍ زائد ـ قاطعه الدكتور فيصل كلثوم متسائلاً عما إذا كانت هذه المحاضرة تمثل ورقة وطنية أو أميركية. وهنا علا صياح البعثيين الآخرين مطالبين بطرد هذا الصحافي الأميركي الجريء، متهمين إيّاه بأبشع النعوت.