كيف حكم “البعث” سوريا ولبنان؟ الربيع السوري مخرز في عين “البعث” منذ العام 1978

كتب جورج بكاسيني في صحيفة “المستقبل”:

لم تكن الثورة السورية وليدة ساعتها، قبل عام، انما هي فعل إيمان بالحرية ومقاومة لنظام الطغاة البعثي، انطلقت شرارتها الأولى قبل 34 عاماً، في إطار حراك مدني لم يهدأ ولم يبرز كثيراً الى العلن بسبب القمع الأسدي وانعدام وسائل التواصل الاعلامي والاجتماعي في تلك الحقبة.

“القرار رقم 1” بيان ثوري تحوّل إلى كرة حرية بدأت تتدحرج وتكبر، مناهضة للاعتقالات التعسفية وكم الأفواه. وزعّته سواعد الأحرار شعلةً لثوار اليوم، الذين تتردد أسماء كثيرين منهم في حلقة اليوم، لعبوا أدواراً كبيرة في السنوات أو العقود الماضية في سوريا، قبل أن يصبحوا معروفين كما هو الحال اليوم على شاشات التلفزة.

لم تفلح بربرية النظام في سحق المعارضة على الرغم من زجّ اعضائها في السجون. أو في السيطرة على الحراك المدني في سوريا حيث تصاعدت موجة الانتقاد السياسي عبر المنابر الثقافية والندوات الاقتصادية في ظل التدّخل المتمادي لعناصر النظام نفسها.

حدثان كبيران لاح منهما بصيص لأمل في تغيير الواقع العسكرتاري المقيت التي ترزح معه سوريا، الأول سقوط نظام تشاوشيسكو في رومانيا، حيث رفع الثوار شعار “بالأمس شاوشيسكو واليوم شامشيسكو” في اشارة إلى حافظ الأسد، والثاني مرض الأسد الأب الذي ترافق مع تراخي السلطة الأمنية آنذاك.

استفاد نشطاء الأمس واليوم من هذه التغييرات واطلقوا منتديات عديدة تخللها محاضرات ومداخلات تعرّي الحال الأمني البائس والفساد المستشري في سوريا، وصولاً إلى ظاهرة النشر لمعارضين سوريين في جريدة “النهار” مروراً بظهور انتقادات واسعة للنظام داخل الأوساط البعثية وقمع ربيع دمشق. 14 شباط 2005 يوم استشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري ألهم ثوار سوريا بعد ان اقام حلفاء النظام السوري تظاهرة شكر وتأييد للنظام في ساحة رياض الصلح في 8 آذار وتنظيم النظام نفسه مسيرة مماثلة في سوريا فكان رد الفعل الأول على المسيرتين تظاهرة للمعارضة السورية في 10 آذار في شارع النصر أمام قصر العدل في دمشق للمطالبة بسحب الجيش السوري من لبنان وسوريا، شارك فيها نحو ألف شخص وكرّت سبحة التظاهرات المماثلة في عدد من المناطق السورية، وما زالت حتى اليوم.

أول إرهاص للثورة المدنية في سوريا سُجّل العام 1978 من خلال بيان صدر عن نقابة المحامين في دمشق سُمِّي “القرار رقم 1″، كتبه المعارض هيثم المالح الذي طالب باطلاق المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة والسماح بتشكيل الأحزاب.

هذا البيان غير المسبوق تبنّته نقابة المحامين على مستوى كل سوريا، قبل أن يحظى بتأييد نقابتي الأطباء والمهندسين، ما فتح الباب امام حراك مدني لم يكن مألوفاً، سرعان ما تطور بعد عام (1979) مع ظهور تجمّع سُمِّي “التجمع الوطني الديموقراطي” برئاسة جمال الأتاسي وعضوية رياض الترك وحزب “العمال الثوري”.

أحد أبرز الناشطين في تلك المرحلة في توزيع بيانات هذا “التجمع” الدكتور كمال اللبواني (عضو المجلس الوطني السوري حالياً) كلّف بتوزيع البيان الأول في مستشفى “المواساة”: “لم يكن هناك لا “انترنت” ولا وسائل تواصل اجتماعي. كنا طلاباً في الجامعة نطبع البيانات ونوزّعها بأيدينا. أذكر أن البيان الأول تضّمن كل المطالب التي يطالب بها الثوار اليوم. لم تَمضِ ساعات من توزيعنا البيان حتى انقض علينا عناصر أجهزة الأمن واعتقلونا”.

لكن هذا الحراك الذي كان لا يزال في بداياته تلقى ضربة بعد عامين (1980) مع اتخاذ نظام حافظ الأسد قراراً بقمع حركة “الأخوان المسلمين” عسكرياً، فسُحق “الإخوان” وسُحقت معهم حركة هيثم المالح و”التجمع الوطني الديموقراطي”. أكثر من ذلك ذهب النظام إلى حل كل النقابات في سوريا وزجّ رموزها الأساسيين في السجون، ووضع أنظمة جديدة لآليات الانتخاب داخل النقابات على نحو مكّن النظام من السيطرة على كل هذه النقابات التي أعيد تشكيلها بحلة جديدة خلت من أي نشاط له صلة بالعمل الأهلي، فصار ولاء هذه النقابات “لحزب البعث” فيما اتهمت النقابات السابقة بـ”الرجعية”.

بين شاوشيسكو وشامشيسكو

بعد هذه الإجراءات الزجرية نام المجتمع المدني في سوريا لفترة دامت حتى العام 1989 موعد سقوط شاوشيسكو، الذي اعطى أملاً لكل الشعوب المقهورة ولا سيما للنخب التي تضيق ذرعاً بأنظمة الاستبداد، وفي مقدمها المجتمع المدني السوري الذي استأنف حراكه من جديد.

يقول اللبواني: “تشكلت لجان دفاع عن حقوق الانسان. بعض المجموعات بدأت تتحدث عن انتقال الثورة إلى سوريا. اطلقنا على حافظ الأسد لقب “شامشيسكو” ورفعنا شعار “بالأمس شاوشيسكو واليوم شامشيسكو”. لكن النظام سَحَق المعارضة من جديد وزجّ بنا في السجون.. وبنى تحالفاً مع الولايات المتحدة الأميركية فور سقوط الاتحاد السوفياتي قام على معادلة واضحة: مشاركة الجيش السوري في التحالف الدولي ضد غزو صدام حسين للكويت، مقابل السيطرة على لبنان سياسياً وأمنياً.

ورغم ذلك لم يَمُت الحراك المدني في سوريا، كما يقول الناشط المهندس فواز تللّو (عضو المجلس الوطني حالياً): “بدأنا نشهد منذ بدايات التسعيينات حركة نقد تصاعدية في المجتمع، خصوصاً داخل المنتديات الثقافية الرسمية حيث كانت تعقد ندوات اقتصادية وثقافية. اعتمدت هذه المنابر كوسيلة للتصعيد التدريجي ضد النظام وصولاً إلى توجيه نقد سياسي واضح تحت شعار “الإصلاح ومحاربة الفساد”.

حركة المنتديات الثقافية

أبرز هذه المنتديات كان اثنين. الأول كان يدعى “جمعية العلوم الاقتصادية” التي نظمّت موسماً ثقافياً دام نحو خمسة شهور ألقي خلالها عشرون محاضرة (بصورة اسبوعية) تناولت الشؤون الاقتصادية، لكنها كانت مناسبة للتعبير عن انتقادات واسعة للفساد في النظام. اما أبرز شخصيات هذه الجمعية فكان البروفسور في الاقتصاد الدكتور عارف دليلة الذي استمر ناشطاً في هذا المنتدى حتى العام 2000 رغم تدخل الأمن مراراً لمنع القاء بعض المحاضرات ورغم طرد دليلة نفسه من وظيفته حيث كان عميداً لكلية الاقتصاد في جامعة دمشق.

أما المنتدى الثاني فكان ذاك الذي كان أبرز ناشطيه السوري القومي الاجتماعي السابق عمر أبو زلام. كان منتدى مفتوحاً يحضره بين 20 و40 شخصاً مرتين كل شهر، كما كان يحضره أيضاً عناصر الأجهزة الأمنية من دون أن يتمكن أحد من منعهم من ذلك. يحضرون إلى المنتدى، يجلسون مثلهم مثل المشاركين مع فارق وحيد، أن الآخرين يشاركون في النقاش، أما هم، أي العناصر الأمنية، فيرصدون ويسجلون ما يسمعون.

بقي هذا المنتدى ناشطاً، حسب تللّو، حتى العام 2000 أيضاً حيث تراجع دوره مع ظهور منتديات أوسع وأكثر راديكالية.

لكن مع مرض حافظ الأسد في عامي 1998 و1999 بدأت السلطة الأمنية تتراخى. وصار في إمكان ناشطي المجتمع المدني في دمشق وريفها إجراء نقاشات في المنازل من دون أن يستدعيهم أحد إلى هذا الفرع الأمني أو ذلك.

أصدقاء المجتمع المدني

وسّع الناشطون حراكهم، كما يضيف اللبواني: “إثر تولي بشار سدة الحكم بعد وفاة أبيه عام 2000 ، صدر بيان وقّعه 99 مثقفاً سميناه “بيان الـ 99” تضّمن انتقادات صريحة للنظام. تزامن ذلك مع رسالة وجهها الثمانيني (آنذاك) انطون مقدسي، احد منظري حزب “البعث” المخضرمين، طالب فيها بالاصلاح غامزاً من قناة سيطرة الأمن على مفاصل حياة السوريين، ومركّزاً على “كرامة المواطن” وحقه بالحرية. فأقيل على الفور من وظيفته حيث كان يعمل مترجماً في وزارة الثقافة.

على الأثر بدأ حراك ما سُمّي آنذاك جمعية “أصدقاء المجتمع المدني” التي أطلقها ميشال كيلو وعارف دليلة وعضو مجلس الشعب رياض سيف، الذي قام بزيارة إلى مكتب نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام لإبلاغه نية المجموعة إنشاء جمعية “أصدقاء المجتمع المدني” وإطلاعه على مضمون البيان التأسيسي: “لدى اطلاعه على نص البيان قال خدام لسيف: أي ديموقراطية تتحدثون عنها، هذا انقلاب. هذا عبارة عن بلاغ رقم واحد. نحن أتينا إلى السلطة بواسطة البندقية ولن نخرج منها إلا بالبندقية”.

المنتدى في منزل سيف

أثناء خروج رياض سيف من مكتب خدام راودته على الفور فكرة تحويل منزله إلى منتدى مستفيداً من حصانته الدستورية كعضو في مجلس الشعب، التي تجيز له أن يجتمع بالمواطنين والاستماع إلى شكاويهم. اقترح الفكرة على كيلو ودليلة. الأخير شجّعه على ترجمتها لكن كيلو لم يتحمّس لها، رغم انه واصل نشاطه مع دليلة في جمعية “أصدقاء المجتمع المدني” التي تحولت لاحقاً إلى ما سُمّي “لجان إحياء المجتمع المدني” والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.

اما سيف فقرر فتح المنتدى في بيته بتشجيع من فواز تللّو ووليد البني وكمال اللبواني، كما يضيف الأخير: “أول لقاء عقد في المنزل حضره 700 شخص، كما وضعنا مكّبرات للصوت خارج المنزل ليتمكن المواطنون من الاستماع إلى المحاضرة. لكن على الأثر زُجّ بنا في السجن، فيما فتح 22 منتدى في كل انحاء سوريا، بينها منتدى سهير الأتاسي (ابنة جمال الأتاسي) الأمر الذي دفع نظام بشار الأسد إلى اغلاق كل هذه المنتديات على الفور، فيما استمر منتدى رياض سيف في منزله لمدة شهرين رغم أنف النظام.

قرار الإقفال هذا اتخذ بعد اجتماع عقده بشار مع مكتب الأمن القومي الذي أبلغه انه “إذا لم نقفل المنتديات الآن فسنضطر بعد ستة شهور إلى انزال الدبابات إلى الشارع لقمع الانتقادات”.

بعد شهرين وصلت الموسى إلى منتدى رياض سيف، فتبلغ قراراً من السلطات الأمنية بوقف المحاضرات “فصرنا نجتمع في منزله في السهرات من دون القاء المحاضرات” كما يقول اللبواني: “في السهرة الأولى انخفض عدد المشاركين من 700 إلى 9 أشخاص فقط بسبب الخوف، لكن بعد اسبوعين صار عدد المشاركين يرتفع إلى ان بلغ بعد شهرين 500 شخص وبدأت المنتديات الأخرى تستعد لاستئناف نشاطها رغم قرار المنع. فاتصل عبد الحليم خدام بسيف موجهاًَ إليه أمراً باغلاق منتداه واعداً إياه بتعديل قانون الأحزاب خلال شهرين وبمنحه ترخيصاً فور تقدمه بطلب رسمي لذلك.

دعا سيف أصدقاءه الناشطين إلى منزله واطلعهم على ما دار بينه وبين خدام، معلناً رغبته في طلب تأسيس حزب تحت اسم “حزب السلم الاجتماعي”. نصحه الناشطون بعدم الاقفال لكنه أصّر. وبناء على ذلك اصدر المجتمعون بياناً أعلنوا فيه اقفال المنتدى “موقتاً” بانتظار صدور ترخيص رسمي، مع الوعد باعادة فتحه في حال الحصول على ترخيص أو عدمه.

يضيف اللبواني: “لدى توزيعنا البيان على الحاضرين أبدى عناصر الأمن اسفهم “لماذا تقفلون؟” وكان عددهم نحو 30 عنصراً كانوا يحضرون كل الاجتماعات وكنا ننصحهم بتسليمهم شرائط مسجلة بدلاً من ازعاج أنفسهم بكتابة التقارير”.

أقفل منتدى سيف. تقدمت المجموعة بطلب ترخيص بعد شهرين، لكن السلطات لم توافق. فتقرر اعادة فتحه في شهر حزيران. لكن اللبواني تمنى على سيف تأجيل هذه الخطوة إلى نهاية الصيف “لأن السجن في فصل الصيف صعب. أنت يا رياض تكتب تاريخ سجنك، أجّل الخطوة بضعة شهور لكي نؤمن بعض المال لعائلاتنا قبل الدخول إلى السجن”.

وهكذا كان، استأنف المنتدى عمله في 5 أيلول 2001 بالتزامن مع افتتاح العام الدراسي. تجمّع الشباب في المنتدى وقالوا لسيف بحضور زوجته : “اذا اعتقلت بعد هذه الخطوة سنكمل نشاطنا في المنتدى قُل لزوجتك ذلك كي لا تمنعنا”. ثم طرحوا سؤالاً عليه “في حال اعتقلت من يتولى مهمة النطق باسم المنتدى من بعدك؟” اجاب: “كمال اللبواني” . ثم طرح سؤال : وفي حال اعتقال كمال؟ قال :”وليد البني”. وفي حال سجن الأخير ايضاً تقرر ان يحّل مكانه حسن السعدون.

عقد الفساد”.. واعتقالات

على الأثر اتصل أحدهم بالدكتور برهان غليون الموجود في باريس (رئيس المجلس الوطني السوري حالياً) ودعاه لالقاء محاضرة في منتدى سيف، فأجاب بالموافقة. وبالفعل حضر غليون في 5 أيلول كان يوم اربعاء والقى محاضرة في المنتدى دامت أربع ساعات فقررت المجموعة طبعها وتوزيع 4 آلاف نسخة منها مع كتيب يتحدث عن “عقد الفساد” الذي أبرمه قريب بشار رجل الأعمال رامي مخلوف حول شركات الخلوي الذي قدر الكتيّب سرقة مخلوف من هذا القطاع ما لا يقل عن 8 مليارات دولار في ذلك الحين هي حق مكتسب للشعب السوري.

في اليوم التالي رفعت الأجهزة الأمنية الحصانة (بدلاً من مجلس الشعب) عن رياض سيف، وحضر عناصر منها إلى منزله واقتادوه إلى السجن. فجاء رد المجموعة سريعاً. تنادوا إلى منزل سيف في اليوم نفسه وقرروا فتح المنتدى بشكل يومي (كان اسبوعياً) واصدروا في اليوم التالي، أي في 7 أيلول، أول بيان موحّد باسم كل فصائل المعارضة في سوريا، وقعته 12 هيئة مدنية وسياسية.

هذا الاجتماع أداره كمال اللبواني كما اتفق مع سيف سابقاً، وعاونه في صياغة البيان هيثم المالح وعارف دليلة ووليد البني وفواز تللّو. فجاء البيان قاسياً ضد النظام. لكن النتيجة كانت وكما كان متوقعاً، اقتياد كل هذه المجموعة إلى السجن (بين 8 و11 أيلول). اعتقل اللبواني والبني ودليلة وحبيب صالح وحسن السعدون يوم السبت، فيما اعتقل حبيب عيسى يوم الثلاثاء، أي في 11 أيلول، وكذلك فواز تللّو الذي اقتيد الى السجن وهو لا يزال يتابع وقائع ضربة برجي نيويورك على شاشة التلفزيون.

سحق “ربيع دمشق

استفاد النظام من حادثة 11 أيلول مع انضمامه إلى ما سمي الحلف الدولي ضد الارهاب، فوضع هؤلاء الناشطين في زنزانات منفردة ومنع الزيارات عنهم خلال الشهور الستة الأولى. وسَحَق بذلك كل حركة ما سُمّي آنذاك “ربيع دمشق” الذي دام منذ أيلول 2000 إلى أيلول 2001.

النشاط الوحيد الذي استمر بصورة طبيعية كان تحت سقف منتدى الأتاسي، يقول اللبواني مسهباً: ” كان يعمل تحت اشراف ضمني من الأجهزة الأمنية، ومن مجموعة من الأشخاص كحسن عبد العظيم الذين يشكلون اليوم ما يسمى “هيئة التنسيق الوطني” ولا تخفى على أحد علاقتهم بالنظام”.

سبق ذلك كما يضيف تللّو نشاط مدني حقيقي ومتعدد الأوجه كانت في طليعته جمعية “حقوق الانسان” التي أسسها هيثم المالح بالتعاون مع أنور البني ورازان زيتوني ومهند الحسيني. وضمت لاحقاً ناشطين آخرين مثل نجاتي طيارة. انتقل النشاط تدريجياً إلى الاعلام في دمشق من جهة وفي بيروت من جهة ثانية: “علي فرزات (استشهد في الثورة الحالية) اسس جريدة “الدومري” في سوريا حيث كانت تعنى بنشر مقالات نقدية ضد النظام. فيما انتشرت ظاهرة النشر لمعارضين سوريين في جريدة “النهار” اللبنانية، فبدأ كسر حاجز الخوف بالكلمة.

الانتقادات من داخل النظام

تزامن ذلك مع ظهور انتقادات واسعة للنظام داخل بعض الأوساط “البعثية” كان أبرزها في لقاء عبد الحليم خدام مع فرع حزب “البعث” في جامعة دمشق حيث ظهر نقد علني من “البعثيين” مقرون بالمطالبة باصلاح النظام.

ثم انتشرت العدوى الى مجالس بعثية أخرى خصوصاً في اللاذقية حيث التقى خدام أيضاً خمسة آلاف “بعثي” في مناسبة كان عنوانها تأييد عهد بشار الجديد، واذ به يفاجأ بكّم كبير من النقد الموجّه إلى النظام. حتى بعض الصحف الحكومية كـ”الثورة” التي كان يرأس تحريرها محمود سلامة وهو بعثي قديم فتحت صفحاتها لمعارضين بارزين كتبوا فيها مثل ميشال كيلو وعارف دليلة.

لكن مع قمع “ربيع دمشق” أقيل محمود سلامة من منصبه وقد توفي بعد فترة كَدَراًَ بنوبة قلبية. كما أعيدت السيطرة على كل المرافق من قبل الأجهزة الأمنية. بينما استمر منتدى الأتاسي بنشاطه لفترة من الزمن من دون أن يلامس جوهر المواضيع، فيما سيطر على جمعية “حقوق الانسان” فريق غير فاعل. اما السجناء العشرة الذين اعتقلوا فلم يخرج معظمهم منه إلا في العام 2004. حُكم اللبواني لثلاث سنوات ووليد البني وفواز تللّو خمس سنوات، ورياض الترك سنتان ونصف السنة وحبيب عيسى 5 سنوات اما عارف دليلة فلعشر سنوات (لأنه معارض وعلوي في آن).

كان الاهتمام بهؤلاء الناشطين ممّيزاً في السجن، يقول تللّو: “وضعوني في زنزانة “متر بمترين” تحت الأرض. لا متنفس فيها سوى طاقة صغيرة في الباب لتسليم السجين وجبات الأكل. مكان الحمام إلى جانب موقع الرأس اثناء النوم. وفي بعض الأحيان تعطّل الحنفية بقصد في الحمام لكي لا نسمع شيئاً آخر. بعد فترة وضعوني ومجموعة من المعارضين في زنزانة واحدة لكننا اكتشفنا لاحقاً ان أجهزة تنصت كانت مزروعة هناك.

التواصل مع سمير قصير

بعد خروج اللبواني من السجن في 9 أيلول 2004 كانت الحال مأسوية كما يقول: “فنظّمنا حملة أنا وانور البني وياسين الحاج صالح (كاتب في “النهار) لاطلاق سراح سجناء “ربيع دمشق”. جريدة “النهار” ساعدتنا كثيراً في تلك المرحلة كان ياسين الحاج صالح يتواصل على الدوام مع الشهيد سمير قصير وكذلك ميشال كيلو. خصص ملحق “النهار” لأقلام المعارضة السورية. كنا نتواصل مع سمير بواسطة البريد الالكتروني. كان سمير معنا كل يوم. واحدٌ منا. عايش نبض الشارع السوري وتفاصيله تماماً كما عايش حملتنا لمناهضة التعذيب في السجون منذ بداية العام 2005″.

في 14 شباط 2005 استشهد الرئيس رفيق الحريري في بيروت. اثر ذلك أقام حلفاء النظام السوري في لبنان تظاهرة شكر وتأييد للنظام في ساحة رياض الصلح في بيروت في 8 آذار. وفي اليوم التالي، أي 9 آذار نظّم النظام نفسه مسيرة مماثلة في سوريا تحية للأسد”.

رد الفعل الاول على مسيرتي الحلفاء والنظام جاء من المعارضة السورية يقول اللبواني: “دعونا إلى تظاهرة في 10 آذار في شارع النصر أمام قصر العدل في دمشق للمطالبة بسحب الجيش السوري من لبنان وسوريا أيضاً، شارك فيها الف شخص اعلنوا خلالها ان 44 سنة من قانون الطوارئ صارت كافية.. كفى ظلماً، وعلى الأمن ان ينسحب من حياتنا السياسية كما يجب ان يتفكك النظام الأمني اللبناني ايضاً”.

يضيف: “في هذه التظاهرة ظهر الشبيحة الذين نعاني منهم اليوم للمرة الأولى. ذلك ان النظام لم يكلف الأمن بأي دور في هذه التظاهرة وانما كلف نحو عشرة آلاف طالب من الجامعات لضربنا. النظام حرض الأبناء على ضرب آبائهم في الشارع. أليست هذه ثقافة الإرهاب؟”.

على الأثر انتقل الناشطون إلى منتدى الأتاسي. اقاموا محاضرات عن “ربيع دمشق” وربيع المنطقة وعن التغييرات المطلوبة في سوريا. وطردوا المخبرين من المكان، فرّد النظام كعادته وبسرعة معتقلاً سهير الأتاسي التي بقيت في السجن حتى أيار 2005.

سوريا… حرية

قبل الاعتقال بأيام قليلة عقد اجتماع للأحزاب المعارضة في منتدى الأتاسي حيث تلا كل حزب ورقة أو برنامجاً اعده. اما ورقة “الإخوان المسلمين” الذين لم يكونوا حاضرين في اللقاء فتلاها علي العبدالله (والد الناشط في واشنطن حالياً محمد العبدالله).. فاعتقلوه على الفور.

ثم نظّم الناشطون تظاهرتين الأولى في ساحة المدفع امام سفارة الاتحاد الأوروبي والثانية في قلب دمشق في ساحة يوسف العظمة بوابة الصالحية. رفعت شعارات خلال هاتين التظاهرتين “سوريا.. حرية” فقُمعتا. انتقلتا إلى باب توما من دون أن يعرف الأمن مسبقاً فجنّ جنونه. دامت التظاهرة في هذا المكان لمدة ساعة قبل أن يصل عناصر الأجهزة اليها ويقمعوها. الشعار الأهم الذي رفعه المتظاهرون كان المطالبة باعتقال من قتل الشيخ معشوق الخزنوني (شيخ كردي اغتاله النظام بعد التعذيب) وضمّ ملفه إلى ملف الشهيد رفيق الحريري في التحقيق الدولي.