رياض سيف: التغيير في سوريا آتٍ قريباً لا محالة

من ملحق “النهار” العدد 726 – الأحد 5 شباط 2006

محمد علي الأتاسي

لم تسنح لي الفرصة لأتعرف عن قرب إلى النائب رياض سيف قبل أن تطاوله في العام 2001 إجراءات نزع الحصانة البرلمانية والمحاكمة والسجن لمدة تزيد على أربع سنوات في أوج ما سمّي وقتها بـ”ربيع دمشق”. الحقيقة أني كنت، ولا أزال، من أولئك الناس الذين يشعرون بالريبة من كل ما يمت بصلة إلى السلطة، وحتى لو كان المعني نائباً معارضاً في مجلس “شعبها”. كان يلزم، للآسف، توقيف رياض سيف لأدرك كم كانت صادقة وجادة الملفات التي أدراها لجهة فضح صفقة الهاتف الخليوي والمطالبة بالشفافية وحرية الرأي والاجتماع وحرية تشكيل الأحزاب السياسية. واليوم، فإن عودة رياض سيف المتجددة إلى الحياة السياسية تكتسب أهميتها من كون هذا المعارض العنيد، كان ولا يزال، يمثل وجهاً دمشقياً ليبيرالياً، لا تكتمل صفوف المعارضة الوطنية من دون وجوده في مقدمتها. يبقى أن أعترف، وأنا أقدّم هذه المقابلة، أنه في حال قدّر يوماً لمدينة دمشق أن تجري فيها انتخابات حرة يكون رياض سيف من بين المترشحين فيها، فغالب الظن أني لن أصوّت لصالحه، لاختلافي مع برنامجه السياسي. طبعاً هو لن يكون في حاجة إلى صوتي، والاحتمال الأكبر أنه سيأتي على رأس قوائم الناجحين. لكني سأظل أدافع عن حق هذا المناضل الليبيرالي في التمتع بكامل حريته السياسية وفي أن يكون طرفاً رئيسياً وفاعلا في الحياة السياسية السورية. رياض سيف، أهلاً بك حراً من جديد، في مسار لم تغادره سجيناً: مسار نقل سوريا من الاستبداد إلى الديموقراطية.

أمضيتَ أربع سنوات وأربعة أشهر في غياهب السجن، ما الذي تبدل في سوريا مدى هذا الغياب؟

– لم تتح لي الفرصة بعد لأطلع على تفاصيل ما جرى بدقة، فأنا خرجت من السجن مباشرة إلى المنزل. لكن من خلال مقابلتي العديد من الزوار الذين أتوا مهنئين، تلمست رغبتهم الماسة في التعبير بجرأة أكبر عن آرائهم، وشعرت عند الناس حاجة حقيقية للتغيير وبأسرع وقت. إنطباعي أن الناس مؤمنون بأن التغيير حاصل ولا بد منه، لكن ليست لديهم صورة واضحة لكيفية التنفيذ، وهناك خوف من المرور بتجربة رهيبة كتجربة العراق.

هل تعتقد من طرفك أن السيناريو العراقي ممكن اليوم في سوريا؟

– السيناريو العراقي غير ممكن في سوريا، ولا أعتقد أن القوى التي دفعت في اتجاهه في العراق لها مصلحة اليوم في تكراره في سوريا، كونه شكل تجربة فاشلة في كل المقاييس ولكل الأطراف. وإذا كان الشيء الوحيد الإيجابي في هذا السيناريو، أن العراق تخلص من الطاغية، فإن الطريقة التي تم بها ذلك، جعلت التكاليف الإنسانية والمادية مخيفة حتى للقوى المحتلة.

هل تعتقد أن القوى الكبرى جادة اليوم في ضغطها على النظام السوري من أجل التغيير، وإذا كانت هذه الضغوط حقيقية فما هو في رأيك الموقف الذي يجب أن تتخذه قوى المعارضة السورية تجاه هذه الضغوط الآتية من الخارج؟

– سأحاول أن أجيب عن السؤال بشكل موسع قليلاً. أنا من الذين يعتقدون أن المجتمع الغربي (وأعني به الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكندا وأوستراليا) أصبح بعد 11 أيلول على اقتناع تام بأن الحل الأمثل لتفادي مشكلات كبرى في المنطقة لن يكون إلا بالتوقف عن دعم الأنظمة الاستبدادية والدفع في اتجاه التحول الديموقراطي. فالأنظمة الديموقراطية، وفقاً لاقتناعاتها الجديدة، لا تتقاتل في ما بينها ولا تفرخ إرهابيين ولا تصدر هجرات متتالية. هذا التحول سبق وشهدنا مثله في دول أميركا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية، وها هو اليوم يصل إلى منطقتنا. وإذا كانت تجربة العراق الفاشلة موضع خلاف داخل الدول الغربية بسبب طابعها العسكري العنيف، فإن هناك توافقا اليوم بين الدول الغربية على ضرورة التحول الديموقراطي السلمي في سوريا. وإذا نظرنا بشكل أكثر شمولية إلى تاريخ علاقتنا مع العالم الغربي، وجدنا أنه تم ارتكاب خطأين استراتيجيين في علاقتنا مع الدول الغربية خلال المرحلة السابقة، فرضتهما الظروف الدولية والصراع مع إسرائيل. أولاً: خطأ الانزلاق إلى معاداة كل ما هو غربي وتأجيج مشاعر الناس وشحنها ضد الغرب. فخلال فترة الحرب الباردة تم الرهان على الجانب الخاسر، أي الكتلة الشرقية، وفرضت الظروف علينا الاتجاه نحو اليسار. لكن هذا التوجه اليساري، الذي سمّي آنذاك النهج التقدمي، أفقدنا الكثير من الأصدقاء في الغرب، وسمح للبعض بالإنفراد بالسلطة ومصادرة الحكم تحت شعارات التقدم والاشتراكية ومعاداة الإمبريالية، في حين أن اقتصاد السوق والديموقراطية ما كانا ليسمحا لأحد بأن يتسلط على الحكم ويبقى ممسكاً فيه على مدى عشرات السنين. ثانياً: تم وأد كل التجارب الديموقراطية الدستورية الوليدة في منطقتنا بحجة حرق المراحل والتصدي للغرب، في حين كان في إمكان هذه النظم الديموقراطية الوليدة أن تصحح نفسها بنفسها فيما لو تركت تنمو وتتطور بسلام.

لنكن صريحين، إن الوضع القائم اليوم لا يمكن إصلاحه، وتالياً لا حل إلا في التغيير لإقامة جمهورية ديموقراطية جديدة. وفي هذا المجال نحن في أمس الحاجة لمساعدة الغرب، وهو في رأيي مستعد لمساعدتنا وفقاً لمصالحه. أي أننا في حالة تقاطع مصالح، وعلينا أن نكون على مستوى عال من الثقة في النفس وأن ندرك ماذا يريد الغرب منا، وماذا نريد نحن منه، لنتمكن في المستقبل من توطيد علاقاتنا الطبيعية مع الغرب في عملية اعادة بناء الجمهورية العربية السورية بعد نجاح الشعب في اقامة نظامه الديموقراطي. ما نطلبه من الغرب ومن كل الأحرار في العالم ومن منظمة الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان في هذه المرحلة الانتقالية لإقامة النظام الديموقراطي هو مساعدتنا في إجبار النظام في سوريا على احترام حق المعارضة المشروع في حرية التعبير والاجتماع من دون تعرضها للقمع والسجون كما هي الحال حتى الآن. نؤمن أن المعارضة تملك من الحقائق ما يكفي، اذا ما اتيح لها ايصال خطابها الى الشعب السوري، من أجل أن يقوم الشعب بذاته باستعادة حقوقه المغتصبة على مدى أربعين عاما من طريق العصيان المدني واستخدام كل الوسائل السلمية في نضاله للوصول إلى هدفه بإعادة بناء الجمهورية وإقامة النظام الديمقراطي.

هل تنوي السفر إلى الخارج، وهل أنت على استعداد للالتقاء بمسؤولين غربيين بمن فيهم أعضاء في الإدارة الأميركية؟

– طبعاً أنا مستعد. لا بل واجبي كسياسي معارض أن أوصل كلمة الشعب السوري وتوقه إلى الديموقراطية إلى جميع المحافل الدولية. لديّ ثقة بنفسي تجعلني على اقتناع بأني لن أخدم إلا صاحب القضية الذي هو الشعب السوري. ولنكن صريحين، ففي ظل توازن القوى السياسي والمالي والتكنولوجي، ليس هناك أي مصلحة للشعب السوري الراغب بالتقدم والنهوض، في إحداث أي شكل من أشكال القطيعة مع الغرب. من هنا، يدنا ممدودة إلى الغرب بكل ثقة بالنفس ومن منطق الاحترام المتبادل. الشعب السوري تم تضليله ونهبه، وسلبت كرامته وحقوقه وترك وحيداً إلى قدره، والأنكى أن من سلبه حقوقه وكرامته، يدّعي اليوم انه يدافع عنه في وجه أطماع الغرب. من هنا فمهمتي أن أكون أمينا لمصلحة من أدافع عنهم وأن أكشف أمامهم هذا الزيف.

ظهر اسمك في المجال العام في البداية، في نطاق النشاطات الصناعية، ثم ترشحت لمجلس الشعب كنائب مستقل عن مدينة دمشق في العام 1994 ثم في العام 1998. ما السبب الذي دعاك إلى دخول عالم السياسية في بلد مثل سوريا وفي ظل نظام كنظامها الحالي؟

– في العام 1994 كنت في أوج نشاطي الصناعي وكان مجموع مبيعات مصانع “أديداس” وغيرها بين البضائع المصدرة وتلك المبيعة في السوق الداخلي يقارب المليار ومئة مليون ليرة سورية سنوياً، وكان عدد العمال نحو 1600 عامل. من هنا أستطيع القول إن دخولي إلى عالم السياسة كان خطأ أو صدفة. قبل هذا التاريخ كنت كأغلب رجال الأعمال في سوريا لا اهتم بالسياسة إلا من خلال ما أتابعه في نشرات الأخبار. حتى اني لم اكن اقرأ الجريدة اليومية. في ما عدا فترة قصيرة من سن الشباب في العام 1963 انضممت خلالها إلى حزب “الأخوان المسلمين”، لم يكن لديّ أي نشاط سياسي في حياتي وكنت متفرغاً بالكامل لعملي الصناعي.

في العام 1994 صوّر النظام الانتخابات على أنها بداية عهد جديد نحو الانفتاح والتعددية، وبناء على طلب بعض الأصدقاء رشحت نفسي قبل ثلاثة أيام من إقفال باب الترشيح، وإن كنت لم آخذ الأمر على محمل الجد. لكن عند ظهور نتائج الانتخابات وحصولي على أعلى أصوات من بين المستقلين في مدينة دمشق، أدركت أني أصبحت في وسط المعركة ونذرت نفسي من يومها لكي أكون صادقاً مع نفسي ومع الآخرين ولأدافع عن الناس الذين منحوني ثقتهم. ومن ذلك اليوم بدأت مشكلاتي الفعلية، السياسية ثم المالية، مع السلطة وأجهزتها الأمنية وبيروقراطيتها المتربصة.

هل تتفهم أن دخولك مجلس الشعب وقبولك في البداية بدخول اللعبة وفقا لشروط النظام، جعلك موضع شبهة في نظر العديد من المواطنين المقتنعين بأن لا أمل يرتجى من مؤسسات هذا النظام؟

– نعم أتفهم ذلك، ولو كنت مكانهم لكانت انتابتني الشكوك نفسها. لكني في الحقيقة لم أكن أعي في البداية ماهية هذه اللعبة، ولو كنت أعيها لما كنت دخلت إلى المجلس أصلاً. فالثمن كان مرتفعاً جداً على الصعيد الشخصي والمهني، إذ فقدت ابني اياد،21 عاما، وخسرت كل ما أنجزته في المجال الصناعي الذي استغرق بناؤه اربعين عاما من الجهد المتواصل.

من خلال ملاحقتك لملف صفقة الهاتف الخليوي حتى النهاية، ربما كنت النائب الوحيد الذي مارس دوره التشريعي في الرقابة على السلطة التنفيذية ودفع من أجل ذلك أفدح الأثمان، هذا بالإضافة إلى تبنيك خطابا جذريا في المعارضة السياسية في الفترة التي سبقت سجنك. لكنك قبل ذلك كنت في عداد أعضاء مجلس الشعب الذين صوتوا لترشيح الرئيس الراحل حافظ الأسد لولاية رئاسية جديدة، كما أنك صوّتَ لتعديل الدستور ولترشيح الرئيس الحالي بشار الأسد ليتبوأ سدة الرئاسة خلفاً لأبيه. كما أنك في العديد من مداخلاتك البرلمانية ونصوصك المكتوبة استشهدت بأقوال الرئيس حافظ الأسد. كيف تفسر لنا هذا التناقض، وما هي المعادلة التي كانت تحكم تصرفاتك في تلك الفترة؟

– بصراحة، عند دخولي مجلس الشعب، وفي ظل غياب الصورة الواضحة عندي لما يجري في سوريا، كنت أعتقد أن نظام حافظ الأسد هو قدر سوريا الذي لا مفر منه. لذلك عندما يكون اقتناعك أنك تواجه قدراً، فعليك أن تتكيف مع هذا القدر، لا أن تعمل على تغييره. وقد بقيت على هذا الاقتناع حتى انتخابات 1998، لأني لم أكن أعي بعد حجم الدمار الحاصل، وكنت أتصور وقتها أن من الممكن تصحيح الأخطاء من دون تغيرات جذرية تصيب النظام نفسه. ورغم أن في عائلتي شخصين مفقودين، أخي الذي أخذ من بيتي في العام 1980 بتهمة الإنتماء إلى “الأخوان المسلمين”، وابني الذي اختفى بحادث “غرق” مشبوه ومفبرك في العام 1996، فإني وبناء على طلب رئيس مجلس الشعب ألقيت بعد شهور من اختفاء ابني كلمة قلت فيها إن “الرئيس حافظ الأسد جلب لسوريا الأمن والأمان”. طبعا، قال الكثير من الناس عند سماعهم هذا الكلام إن رياض سيف جبان ومنافق، لكن الحقيقة هي أني كنت أتحاشى المزيد من الدمار الذي يمكن أن تتعرض له أسرتي من نظام ليس لقسوته حدود.

هل تشعر بالمرارة من تقاعس رجال الأعمال والصناعيين في سوريا عن التضامن معك، وهل هناك من رسالة تحب توجيهها اليهم؟

– لا، ابداً أبداً. أتفهم موقفهم بكل وضوح ولا أعتب عليهم، وأعرف أن قلوبهم وعواطفهم معي وإن كانوا لا يستطيعون إبداء ذلك. فالنظام أراد أن يجعل رياض سيف عبرة لمن يعتبر من رجال الأعمال. وفي الحقيقة فإن هذا النظام وضع الآلية التي تمكّنه من تحييد رجال الأعمال والصناعيين والتجار عن ممارسة السياسة والالتقاء مع المعارضة، وذلك من خلال تحكمه الاعتباطي بسياسة الضرائب والمالية والتموين والبلدية التي تبقى سيوفا مسلطة على رؤوسهم، فالسلطة رتبت الأنظمة والقوانين التي تحكم النشاط الاقتصادي بحيث تستطيع تدمير أي منشأة اقتصادية وإجبار صاحبها على إشهار إفلاسه بتطبيقها القوانين النافذة فقط دون القمع المخابراتي. لهذا يحرص رجال الأعمال في سوريا على عدم استفزاز النظام خوفا من البطش. من هذا المنطلق أنا أتفهم عدم تأييدهم الصريح لي، لا بل أن اطلب منهم الحذر لان حاجتنا لهم في عملية اعادة البناء ستكون اكبر في المستقبل.

ما الذي بقي اليوم من تجربة “ربيع دمشق” وما هي العبر التي يمكن أن نستخلصها من تعثر هذه التجربة، وهل تعتقد أن الدكتور بشار الأسد أصبح هو الآخر قدراً لسوريا؟

– رغم أن مطالبنا خلال “ربيع دمشق” كانت خجولة، فإن “ربيع دمشق” يبقى قاعدة الانطلاق نحو التحول الديموقراطي والتغيير السياسي الذي بات البلد في أمس الحاجة إليه. أما في الإجابة عن الشق الثاني من السؤال فاني مؤمن بأن الديموقراطية هي قدر سوريا وبأن النظام القائم حاليا لا يملك مقومات بقائه لأن التحديات في الداخل من فساد وظلم اجتماعي وسوء إدارة، مضافا اليها ما يجري حولنا في العالم، سيدفع في اتجاه حق الشعوب في تقرير مصيرها وحكم نفسها بنفسها.

أطلق المناضل السوري رياض الترك مبادرة دعا فيها الرئيس السوري إلى التنحي وإلى إجراء انتخابات تشريعية تؤمن انتقالا سلميا للسلطة. ما رأيك بهذه المبادرة؟

– المبادرة هي وجهة نظر أحترمها وخصوصاً أنها تأتي من طرف شخصية وطنية لا أحد يشكك في حسها الوطني وحرصها على سلامة البلد. فرياض الترك هو من بين القلائل الذين يحق لهم أن يقولوا ماذا يجب أن يكون، كونه من الأوائل الذين وعوا حقيقة ما يجري من أمور، وكان سباقاً، علينا جميعاً، في مواقفه المعارضة، ودفع في سبيل ذلك ثمناً لا يوصف. إذاً، مبادرة رياض الترك هي أحد الاقتراحات الممكنة والجدية التي يجب أن تدرس بعناية، لكنها بالتأكيد ليست الحل الوحيد. ومن الممكن إيجاد حلول أو مبادرات أخرى من أجل التغيير.

لنكن أكثر وضوحاً في هذه النقطة. أنت تتحدث الآن عن تغيير النظام، لكن ماذا عن إصلاح النظام؟

– عند تسلم الرئيس بشار السلطة ظنت المعارضة، التي اطلق عليها في ما بعد “ربيع دمشق”، أن إصلاح النظام لنفسه امر ممكن، وكان مؤملا ان يتم الانتقال الديموقراطي التدريجي قبل الاستحقاق الرئاسي المقبل، لكن مع الآسف بعد قمع “ربيع دمشق” تأكد أن هذا النظام غير قابل للإصلاح بسبب طبيعة تكوينه القائمة أساسا على الولاءات والمحسوبيات والامتيازات والتي يصر على التمسك بها. وفي حال لم يتم ذلك، فعلينا أن نعمل ونضغط من أجل التغيير الديموقراطي بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، مع مراعاة محظورين إثنين: عدم اللجوء إلى العنف وعدم خوض غمار العمل السري والمؤامراتي. في النهاية أنا أرى أن التغيير آتٍ وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

ترددت في الآونة الأخيرة أنباء عن أن نائب الرئيس السوري المنشق عبد الحليم خدام في لقائه الشهير معك في بداية تحرك “ربيع دمشق” في العام 2000، شجعك على المضي قدماً في منتدى الحوار الوطني وطلب منك في الآن نفسه التروي في إنشاء حزب سياسي في انتظار أن يصدر قانون للأحزاب، ما حقيقة ما جرى في هذا اللقاء؟

– حقيقة ما جرى أني، في الأسبوع الأخير من شهر آب من العام 2000، تلقيت دعوة من عبد الحليم خدام لشرب فنجان قهوة في منزله. استجبت الدعوة واستغرقت الجلسة 3 ساعات تخللها الكثير من المجاملات من جانب السيد خدام، وغالباً ما كان يتكلم باسم رئيس الجمهورية بشار الأسد، وأسرّ لي بأنه طرح مع بشار الأسد مدى الظلم الذي حاق برياض سيف نتيجة كيدية حكومة الزعبي وأنهم رأوا ضرورة التعويض على رياض سيف. وقال لي بالحرف الواحد إن الرئيس بشار يريد لي أن أعود عشرة أضعاف ما كنت عليه. وكل ما هو مطلوب أن نتعاون مع حفظ ماء الوجه، أي أن أبقى معارضاً ولكن بما ينسجم مع المصلحة الوطنية بحسب تعبيره. وطلب مني إعداد دراسة اقتصادية لتقديمها للرئيس السوري. في الفترة نفسها بدأت مع عدد من المثقفين نشاطا سياسيا معارضا هدفه إدخال ثقافة المجتمع المدني إلى سوريا وكنا قد أنجزنا طلب إقامة جمعية “أصدقاء المجتمع المدني” كبداية انطلاق نحو اقامة النظام الديموقراطي.

طلب مني المجتمعون كوني عضواً في مجلس الشعب مراجعة عبد الحليم خدام لتسجيل الجمعية في وزارة الشؤون الاجتماعية. تم اللقاء وظن انه من اجل تقديم الدراسة المتفق عليها، فعندما قدمت له طلب الجمعية قال لي بلهجة حادة هذا بلاغ رقم واحد ولم نتفاهم على هذا ونصحني بالتريث لأن قانونا للأحزاب سيصدر قريبا وان في إمكاني الدخول الى السياسة من الباب لا من النافذة. ولا اذكر أني ناقشت معه موضوع افتتاح منتدى الحوار الوطني.

ما رأيك بانشقاق خدام الأخير؟ وهل أنت مستعد للتعاون معه من أجل التغيير في سوريا؟

– مبادرة خدام الأخيرة تخدم إصرارنا على ضرورة التغيير الديموقراطي وهي تخدم بشكل غير مباشر الشعب السوري بإعطائها مصداقية لخطاب المعارضة القائل بضرورة تغيير النظام. لكن في الوقت نفسه، فإن أي إنسان من النظام السابق تحوم حوله شبهة التلوث بدماء أو أموال الشعب السوري، لا يحق له أن يتكلم باسم هذا الشعب قبل أن يأخذ منه براءة ذمة. وما لم تعط براءة الذمة هذه لعبد الحليم خدام فأنا أرفض أن أتعامل معه.

هل تعتقد بوجود خطر إسلامي يمكن أن يستولي على السلطة في سوريا؟ وما هو موقفك من عودة “الاخوان المسلمين” إلى الحياة السياسية الداخلية؟

– إذا كنا نعيش في جو ديموقراطي، فلا وجود لمثل هذا الخطر. لكن غياب الديموقراطية يزيد من احتمالات خطر كهذا. أما إذا حقق الإسلاميون نجاحات من طريق الانتخابات، فهذا لا يكون بأي شكل من الأشكال خطراً إسلامياً ولا استيلاء على السلطة، لكنه يكون تعبيراً عن إرادة الشعب الحرة والمتبدلة. أما في خصوص “الاخوان المسلمين” فلهم بكل تأكيد الحق والمكانة في اللعبة الديموقراطية الآتية. وشرطنا الوحيد أن يكونوا ديموقراطيين قولا وفعلا.

هل تعتقد أن ملف الخليوي هو السبب الوحيد لدخولك السجن، وهل أنت مستمر في هذا الطريق؟

– في رأيي أن سبب دخولي السجن كان مزدوجاً كونه يتعلق من جهة بـ “ربيع دمشق” ومن جهة أخرى بفضح صفقة الخليوي. أما بالنسبة الى “ربيع دمشق” فإني اليوم أكثر إصراراً وأكثر رؤية بأن الديموقراطية هي قدر سوريا شاء من شاء وأبى من أبى. أما بالنسبة الى ملف الخليوي فأعتقد أن دراستي التي قدمتها لا تزال راهنة ولم يتم دحضها أو الرد عليها إلى اليوم. بل أن الأيام أثبتت صحت الكثير من النقاط التي تنبأت بها للمستقبل من مثل أن شركتي الخليوي لن تلتزما في النهاية عدد المشتركين المحدد في العقد وهو 850 ألف مشترك لكل شركة، بل سيبقى العدد مفتوحاً لكل منهما. لقد كان هذا الأمر واضحاً لي منذ البداية، وبينت كيف أقحموا في العقد عبارة بسيطة تلي الرقم المذكور سابقاً وتقول “وحسب حاجة السوق”، أي أن رقم 850 ألف مشترك هو في الواقع رقم مفتوح. هذا التشاطر ربما تعلموه من شريكهم نجيب ميقاتي وممارساته في لبنان. بناء على ما سبق لا أعتقد أني أستطيع أن أقدم الشيء الجديد في ملف الخليوي بعدما فضحت الخلل الذي فيه، ولذلك فالملف متروك اليوم إلى صاحب العلاقة الذي هو الشعب السوري.

خلال وجودك في السجن وقعت جريمة اغتيال الرئيس الحريري وتلاها انسحاب الجيش السوري من لبنان وتشكيل لجنة التحقيق الدولية وتأزم العلاقات السورية – اللبنانية؟ كيف تنظر إلى كل هذه التطورات وما تصورك لمستقبل العلاقات بين سوريا ولبنان؟

– مقتل الحريري لم يكن بسبب حقد شخصي أو “فشة خلق”، لكنه كان يهدف إلى وقف هذا المد الذي أتى به الحريري وحاول عبره أن يعيد الأمور إلى نصابها ويجعل لبنان دولة مستقلة من جديد. لقد كان الحريري أكثر من اللازم للكثير من الأطراف ومن بينها النظام السوري.

أما بالنسبة الى العلاقات السورية – اللبنانية، فإن بيننا وبينهم تاريخا وجغرافيا يفرضان أن تكون العلاقة بيننا على أفضل وجه كما هي العلاقة بين أي دوليتين مستقلتين وجارتين. وإذا تكلمنا بلغة المصالح بين البلدين فيجب أن يكون هناك تبادل تجاري وتبادل للخدمات والخبرات والأشخاص على أعلى المستويات، كما هي الحال بين فرنسا وبلجيكا على سبيل المثال.

لكن العلاقات السورية – اللبنانية منذ دخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1975 هي علاقات شاذة، لا تخدم إلا مصالح الفاسدين والمرتشين والمهربين في كلا الجانبين، كما أنها خدمت مصلحة النظام السوري في السيطرة السياسية على لبنان وفي تدعيم دوره الإقليمي الذي كان قائماً بتوافق دولي. إذاً، العلاقات الثنائية كانت شاذة وغير طبيعية مدى السنوات الثلاثين الماضية رغم الشعارات الجوفاء التي كانوا يرفعونها في كل مكان ويطبقون عكسها تماما على أرض الواقع. لذلك فإن اغتيال الرئيس رفيق الحريري حرّك التراكمات الماضية وفجّر المكبوت. وإذا كان من المفروض أن تعود العلاقات اليوم بين الشعبين السوري واللبناني إلى طبيعتها، فإننا نجد أن هناك محاولات تبذل لشحن الشعبين واحدهما ضد الآخر، ويحاول البعض توريط الشعب السوري في معركة هو في الأساس ليس طرفاً فيها. فإذا كان هناك بعض المتهمين المفترضين في جريمة إغتيال الرئيس الحريري، فعلينا عدم توريط الشعب السوري، والمفروض من الإنسان الذي يعتبر نفسه بريئاً أن يكون متعاوناً أكثر ما يمكن مع التحقيق. فبقدر ما أكون بريئا، يجب أن أتعاون مع التحقيق، لأن كشف الجريمة سيكون في صالحي. أما رفضي التعاون مع التحقيق، فلن يؤدي إلا لزيادة الشبهات من حولي.

في النهاية فإن الديموقراطية هي أيضا الحل لمشكلتنا مع لبنان. فلو وجد نظامان ديموقراطيان في كلا البلدين، فمن البديهي أن الشعبين سيعملان لمصالحهما المشتركة وسيتبادلان ويتخالطان ويتزاوجان لما فيه مصلحة الجميع.

هناك رأي شائع في لبنان يقول إنه حتى في ظل نظام ديموقراطي في سوريا، فإن الكثير من السوريين لن يقبلوا بلبنان كدولة مستقلة؟

– أبداً. إنسان غبي وأحمق من يقول إن لبنان ليس دولة مستقلة. أعتقد أن غالبية الشعب السوري تعترف بلبنان كدولة مستقلة ذات سيادة. وهذا الأمر ليس من اليوم، لكن منذ تأسيس دولة لبنان الكبير. ويجب أن لا ننسى أيضا أنه حتى قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، كان جبل لبنان يتمتع بحكم ذاتي أبان عهد المتصرفية.

هل هناك شيء تندم عليه في حياتك؟

– أندم على خطاب ألقيته في مجلس الشعب ولم يمض على فقدان ابني الشيء الكثير، وذكرت فيه أن النظام ورئيسه جلبا لسوريا الأمن والأمان. كانت لحظة خنوع وخوف أكثر من اللازم، وكنت وقتها جباناً… ماذا تريد أكثر؟

هل أنت مستعد للعودة إلى السجن إذا قادك عملك السياسي إلى ذلك مرة أخرى؟

– بالتأكيد، لن أسعى بقدمي إلى السجن، لكن إذا كان هذا قدري فلن أهرب منه. أنا مستعد للعودة إلى السجن دفاعاً عن مبادئي، فالسجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. لن أتوقف عن مطالبتي بإقامة النظام الديموقراطي بشكل سلمي وعلني، وأنا مستعد لدفع ثمن هذه المطالب بما فيه العودة إلى السجن.