حوار مع النائب رياض سيف شعبان عبود

شعبان عبود

منذ وقت طويل، كان هاجس صحافي داخلي، باللقاء به والحوار معه في سجنه، يلاحقني. حاولت منذ عام بطرق عدة غير أني لم أوفق. ربما كان دافعي معرفتي بالرجل وإحساسي مثل كثيرين غيري أنه تعرض لحكم ظالم بسجنه بغية تغييبه، سواء لأنه سجل حضورا مميزا في  الحراك السياسي الداخلي الذي حصل بالتزامن مع وصول الرئيس بشار الأسد الى السلطة، وهو الحراك الذي توقف بعد اشهر قليلة من ذلك، أو بسبب إنتقاده العلني لإحتكار أحد رجال الأعمال من الجيل الشاب المحسوب على النظام قطاعا  اقتصاديا حيويا كالخليوي.

في النهاية، وبمساعدة أحد الأصدقاء، نجحت بتأمين بطاقة زيارة للسيد رياض سيف في سجنه بصفة صديق وليس كصحافي. وخلال الوقت القصير الذي سبق لقاءه كنت أفكر بما سأطرحه عليه من أسئلة وأستذكر آخر محاضرة في منزله في ضاحيةصحنايا جنوب دمشق منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكانت للمفكر السوري برهان غليون، وقد تم إعتقال سيف بعد ذلك بيومين ، أي في ليلة 7/9/2001   . وبتاريخ 4/4/2002 حكمت  المحكمة الجنائية (المدنية) في دمشق عليه بالسجن خمسة اعوام”لاستهدافه تغيير الدستور بطرق غير مشروعة”.

كنت طوال الطريق من دمشق إلى منطقة عدرا شرق العاصمة حيث يقع السجن، جالسا في السيارة الى جانب ابنته  السيدة جمانة سيف التي كانت تسرد لي اللحظات والأيام الأولى لوقائع الاعتقال وكيفية تعاطي الأسرة مع ذلك، كانت آيلة   ذات الأربعة أعوام، ابنة السيدة جمانة، وحفيدة النائب سيف، تجلس في المقعد الخلفي، كانت ترتدي معطفا زهريا وبنطالا أحمر من قماش المخمل. قالت لي آيلة:  “أنا جلبت لجدي كيسا من رقائق البطاطا، وأنت ماذا جلبت له؟”. قلت لها كلمات لا أذكرها، غير أني في داخلي كنت أفكر بكتابة تحقيق صحافي جيد له قيمة ما في نفسي، يشبه هدية آيلة لجدها.

لم يكن هناك أي إجراءات أمنية مشددة على باب السجن، هرع  شرطي إلى السيارة، ألقى نظرة عادية ثم انطلقنا إلى الأمام بضعة أمتار. في الطريق إليه حيث ينتظر في غرفة أعدت للزيارة، قمنا بتسليم شرطي آخر بطاقاتنا الشخصية وبطاقات الموافقة على الزيارة التي تم تحصيلها من قصر العدل الكائن قرب سوق الحميدية. طرقنا الباب ودخلنا حيث ينتظرنا. للوهلة الأولى أعتقدت أن سنوات السجن لا بد أنها فعلت  فعلها بالرجل، كنت أتوقع رؤية رجل أقل حيوية وحركة وألقا، لكن وجهه الذي استقبلنا بكل هذا الفرح والزهو، بدد كل توقعاتي.  من هنا بدأت، محاولا أن أعرف منه كيف أنتصر على نفسه وعلى السجن والتغييب:

– أستيقظ باكرا، يبدأ يومي حوالى الساعة الثامنة والربع، أقوم بممارسة رياضة الجري والمشي منفردا لمدة 40 دقيقة، بعد ذلك أتناول وجبة الإفطار التي تقدم لي. ومنذ البداية حرصت على تناول طعام السجن. بعد ذلك أقرأ الصحف التي صارت تصلني. في البداية لم يكن ذلك متاحا. اليوم أقرأ الصحف الرسمية ويقوم أحد الأصدقاء من داخل السجن بتوفير الصحف العربية مثل “الحياة” و”السفير” و”الشرق الأوسط”، أنت تعرف أن “النهار” غير متوفرة في الأسواق.

وماذا عن قراءاتك الأخرى، سمعت أنك التهمت كتبا كثيرة؟

– حوالي 150 كتابا، غالبيتها لها علاقة بسوريا، بتاريخها السياسي، وقرأت كتبا عن الاقتصاد السوري، وكتبا لها علاقة بالسياسة بشكل عام وبحقوق الإنسان. كذلك عنيت بمذكرات أكرم الحوراني وجميل مردم وخالد العظم ولطفي الحفار. قرأت روايات لجورجأوريل ورواية لباولو كويلو ومجتمع الرفاه لإيرهارت وكتاب تفسير القرآن لوهبي الزحيلي وغيرها. كذلك إستفدت كثيرا من مكتبة السجن الضخمة، يوجد فيها آلاف الكتب. لكن في سياق ذلك حرصت أن أخضع قراءاتي لمنهج وخطة منظمة.

ما هي مواصفات الغرفة التي تسجن فيها، وماذا يوجد داخلها؟

– هي غرفة عادية،تحتوي على سرير معدني ومرحاض ومغسلة قديمة.  لن تصدق فرحتي حين وضعوا لي فيها رفا لأضع عليه بعض حوائجي، كذلك لن تصدق فرحتي حين تم وضع مجلى “ستانلس” بدل المغسلة القديمة. في ما بعد صار عندي رفّان. وبعد فترة طويلة نسبيا من سجني صار بإمكاني ان أدخل آلة تسجيل  وراديو وتلفزيون اشاهد منه نشرات الأخبار ، في الثامنة مساء أشاهد أخبار محطة “المستقبل” اللبنانية، وفي الثامنة والنصف نشرة الأخبار على التلفزيون السوري. كذلك تساعدني بعض الكاسيتات من الموسيقى الكلاسيكية في التأمل والتركيز العميق في موضوع معين، أو تبعا للحالة النفسية التي أعيشها. أستطيع القول بعد هذه التجربة أن الإنسان متطلباته بسيطة جدا.

شعرت أنك حريص على موضوع الوقت، واضح أنك تواجهه بطريقة خلاقة؟

– صحيح، ومنذ البداية. لقد دخلت السجن والابتسامة لا تفارق وجهي. كنت أتوقع أن يسجنوني.  لم أصب بأي إحباط منذ اللحظة الأولى لسجني. حتى أني لم أحاول أن أبدد الوقت بالبحث عن أصدقاء والتواجد ضمن تجمعات تعمل على قتل الوقت بأي طريقة. كنت حريصا على البحث عن نديم يفيدني. التقيت بمدرّس لغة إنكليزية وبفضله تحسن مستوى لغتي الإنكليزية نطقا وكتابة. كذلك كان لي نديم آخر، هو مهندس له تجارب واسعة في الحياة ومثقف جيد. وبشكل عام يمكنك القول أني راض تماما عن نفسي، أشعر بأني كنت دائما مدينا للشعب السوري بالكثير وإذا كان سجني يفي بعضا من هذا الحق فأنا سعيد بذلك.

هل مرضت؟ من يزورك؟ ومن هم الذين تتمنى أن يزوروك كل أسبوع؟

قلما أمرض، ربما يعود ذلك لأني قررت الاستحمام منذ سنوات السجن الأولى بالمياه الباردة صيفا وشتاء. هذه العادة أكسبت جسدي مناعة قوية، كذلك ساعدت الرياضة في التخفيف والتخلص من كميات كبيرة من الشحوم. يزورني الأهل بشكل دائم، أما الأصدقاء فكنت قد حرمت منهم طوال العامين الأولين من السجن. واليوم ربما للبعض منهم  مشاغل معينة وأنا لا أريد أن تكون زياراتهم لي سببا في حصول مضايقة لهم. أما الذين ألح على رؤيتهم كل أسبوع فهم أحفادي (في هذه اللحظة يضم حفيدته، التي كانت تزرع الغرفة جيئة وذهابا، الى صدره ويعانقها).

لمن تفتقد وماذا؟

– المرأة، أقصد الزوجة، ودفء المنزل.

بعد ذلك رغبت أن أعود الى قرار الحكم الذي صدر بحقه للوقوف على تفسيره له وأردت أن أعرف كذلك رأيه بالعديد من التطورات التي تجري حوله سواء تلك المتعلقة بالداخل السوري أم تلك التي تجري من حولنا ، كالذي حصل في العراق ويحصل.  عن قرار سجنه قال:

– هناك أسباب سياسية، لم يحتملوا حالة الحراك التي ظهرت في المنتديات. لقد صار النشاط السياسي يكبر وينتشر  بوتائر سريعة ورأوا أنه لا بد من تغييب  أبرز وجوه وناشطي تلك المرحلة واسكاتهم. ومن ناحية ثانية هناك أسباب تتعلق بقضية احتكار الهاتف الخليوي. خافوا ايضاً من أن يكون فتح هذا الملف مقدمة لفتح ملفات واحتكارات اقتصادية أخرى.

وما رأيك بالتوجهات الأخيرة للحكومة السورية، والتي قررت بموجبها الانتقال نحو اقتصاد السوق؟

– أنا لا أؤمن أن هناك نيات حسنة وصادقة بالتحول نحو اقتصاد السوق، هذا النظام السياسي لا يحتمل متطلبات اقتصاد السوق من حيث المنافسة العادلة وتكافؤ الفرص والشفافية. ان للنظام مصالح احتكارية كبرى، وجزء من أعضاء هذا النظام يسيطرون على النسبة العظمى من الاقتصاد السوري.  لذلك فإنه، ومع غياب الشفافية واستمرار الاحتكار، لا يوجد اقتصاد سوق.  الجاري حاليا هو محاولة نسخ مشوه وهجين لما يشبه اقتصاد السوق وذلك لأسباب دعائية، ولتوهّم النظام أن ذلك ربما يساهم في حل معضلات كبيرة تهدد وجوده مثل البطالة وتدني الدخل القومي ونضوب النفط. ويجب ألا ننسى انزياح قسم كبير من الثروة القومية الى أيدي رجال السلطة وبطرق غير مشروعة سواء من طريق الاختلاس أو الاحتكار أو الرشوة. هؤلاء اليوم صار عندهم اقتناع بحتمية الانتقال إلى اقتصاد السوق، أي أن يظهروا أمام الناس كمستثمرين وطنيين. لكنهم رغم ذلك سيعبرون عن  شراستهم في الوقوف ضد أي تغيير سياسي خوفا من انفضاح مصادر ثرواتهم.

وما رأيك بالذي حصل في العراق؟

– العراق واحد من أغنى بلدان العالم، يملك ثروة بشرية، ومياهه غزيرة، كما يملك ثاني أكبر مخزون نفطي. هذا البلد استولى عليه طاغية فسخره لنفسه ولأسرته وأزلامه وأراد توريثه لأبنائه من بعده.  وآلاف من العراقيين الذين عارضوا صدام سجنوا أو قتلوا، كما ان الملايين فروا خارج العراق حفاظا على أرواحهم وصونا لكرامتهم.

صدام بدد ثروات العراق وأزهق أرواح عشرات الألوف من العراقيين في حربين عبثيتين. وأصبح الشعب العراقي يرزح تحت نير الفقر، كما أنه أصبح مدينا للخارج بأكثر من 125 مليار دولار.

لقد سخر صدام، كغيره من الطغاة من العالم، كل امكانات البلاد لضمان استمرار نظامه مما جعل التخلص منه مهمة صعبة على الشعب العراقي  وحده. وصادف أن اجتمعت مصلحة اميركا مع مصلحة الشعب العراقي في إزالة صدام وإزاحته من السلطة. والشعب الاميركي يتحمل في هذه العملية تكاليف ربما تزيد عن 200 مليار دولار  بالإضافة إلى أرواح الآلاف من الجنود الأميركيين.

وفي الوقت نفسه تمكن الأميركيون من إقناع دائني العراق بإسقاط أكثر من 80 في المئة من ديونه. بناء على هذه المعطيات أين يكمن خلاص الشعب العراقي بعد زوال صدام ونظامه؟

في إقامة نظام ديموقراطي حقيقي يقود إعمار العراق ويعيد بناء الدولة ومخاطبة اميركا بإسم الشعب العراقي وباللهجة الودية والوسائل الديموقراطية لصياغة علاقة متوازنة بين الشعبين والدولتين، في اميركا والعراق.  تماما كما حدث في ألمانيا بعد أن حررهاالأميركيون من النازية.

إن اميركا دولة مؤسسات يحكمها نظام ديموقراطي ولا يمكنها أبدا أن تتجاهل المطالب العادلة للشعوب التي تتحدث بإسمها حكومات شرعية تمثل الشعب، وقد أثبتت التجارب ذلك، فلم تستطع اميركا أن تفعل شيئاً حيال قرار الشعب الأسباني في الانتخابات الأخيرة حجب الثقة عن الحكومة الحليفة لأميركا ونجحت حكومة مناوئة لحرب اميركا في العراق.

كما أن أميركا رضخت لقرار البرلمان التركي القاضي بعدم السماح  للجيوش الأميركية بالوصول إلى شمال العراق عبر تركيا رغم أنها عضو في حلف شمال الأطلسي الذي تشكل فيه اميركا القوة المهيمنة.

عند نهاية الزيارة ابتعدت أمتار قليلة نحو السيارة وجلست فيها  مفضلا ترك الأب وابنته وحفيدته وحدهم، من خلف زجاج السيارة كان هناك مطر خفيف وكنت أرى السيدة جمانة سيف واقفة بلباسها الأسود، يجللها الصمت و تنظر الى الجدّ الذي انحنى و عاد  من جديد لضم حفيدته آيلة إلى صدره، زرع على وجنتيها عشرات القبل كما لو أنه يرى في عينيها وألوان ثيابها الزهرية والحمراء ربيعنا المقبل. كنت أرى ذلك جيدا رغم أنه يحصل في سجن.

شعبان عبود – دمشق